USATODAY.com News

Friday, December 30, 2011

كيف تتعرى بدون خجل .. في البرنامج؟ مع باسم يوسف

GUNS AND BUTTER IN THE EGYPTIAN ARMY


The Egyptian Army and the Economy in Egypt

The Army and the Economy in Egypt

الجيش والاقتصاد في بر مصر

الجيش والاقتصاد في بر مصر

كيف ومتى نشأت سلطة دينية ومن الذي ابتدعها في الاسلام

خلاص هىّ «حنش»--إبراهيم عيسى»!


 تتذكر ما الذى كان يفعله العبقرى الراحل عبد الفتاح القصرى فى فيلم «الأستاذة فاطمة»، فى أحد المشاهد الخالدة يذاكر القصرى درس محو الأمية وهو ممسك بكتاب فى يده ويتهجى حروفا مكتوبة تحت الصورة: ثاء عين باء ألف نون، ثم يجمع الحروف فيقرؤها بصوت عالٍ: حنشٌ!
هذا بالضبط ما تفعله مصر هذه الأيام، مجلسًا وحكومةً وشعبًا!
المجلس العسكرى يتهجى حروف الثورة ثاء واو راء تاء مربوطة، لكنها لا تعنى عنده هذه الحروف، وعندما يربط بعضها ببعض يقرؤها «فوضى» أو «قلة أدب» أو «عيال بأجندة»، هو لا يعترف بالحقيقة فيقرؤها كما هى بل يقرؤها كما يقتنع بها فى دماغه. نفس الشىء مع حكومة قديمة بليدة عاجزة عن الخيال إنجازها الذى تسعى إليه هو الحصول على قروض رفضها منذ اليوم الأول للثورة المجلس العسكرى بعبقريته الاقتصادية طبعا، ثم عاد رئيس الوزراء صاحب الصلاحية ليشحت علينا بمباركة من جنرالات المجلس نفسه الذى كان رافضا الاقتراض حرصا على المواطن المصرى كما زعم حتى صار الاقتصاد تحت قيادته وطبقا لرعايته فى حاجة إلى تنفس صناعى، وتأتى الحكومة التى يحتفل رئيسها بعيد ميلاده التاسع والسبعين الأسبوع القادم على اعتبار أنها حكومة إنقاذ وطنى، وبمجرد ما تنطق وتتصرف تكتشف أنها حكومة مبارك التليدة العجيبة التى لا تفعل إلا ما تفعله حكومات مبارك، انتظار التعليمات وتنفيذ التوجيهات وتمشية الحال وتصريف الأوضاع، لا فكر ولا خيال ولا رؤية ولا أمل ولا شىء، اللهم إلا وزير داخلية نشيطا لا يتوقف عن النزول فى الشارع بعد سلفه الذى لم تكن صحته تسمح له بالنزول من مكتبه!
الإخوان المسلمون كذلك يتهجون الحروف: دال ياء ميم قاف راء ألف طاء ياء تاء مربوطة ثم يتصرفون كأنهم فى عصر مبارك، وكأنهم لم يكسبوا أغلبية البرلمان ويتعاملون مع المجلس العسكرى كأنه مبارك يريدون أن يحصلوا منه على أفضل المكاسب لا على الحقوق كافة، يسعون لاتقاء شره لا لمواجهة أخطائه، فتسمع اضطرابا من قيادات الإخوان حول تشكيل حكومة أغلبية بناءً على نتيجة الانتخابات، فيمضى بعضهم إلى عدم استفزاز المجلس العسكرى فيطالبون بوزير مجلسى الشعب والشورى بالتوافق لا بتشكيل حكومة منتخبة، كأننا كنا ننتخب ونمارس ديمقراطية من أجل وزير شؤون مجلسى الشعب والشورى، حاجة تضحّك! وقيادات أخرى تتحدث عن نية الجماعة الانتظار حتى انتخابات الرئاسة فى يونيو القادم ثم التحدث بعدها عن حكومة منتخبة!
حالة الإخوان هى ذاتها الحالة القديمة كأننا لم نقم بثورة يرفع فيها الشعب رأسه ويطالب بحقه، نفس الباطنية السياسية مع غياب الشفافية ورمى بالونات الاختبار، ولا نفهم إذا كان شعار الإخوان «مشاركة لا مغالبة» لا يزال هو نفسه مستمرا بعد الثورة، فلا بد أن يدرك الإخوان أن المشاركة تعنى أن المطالبة بحكومة منتخبة تعبّر عن ضمير وطنى عام تفترضه الديمقراطية وتفرضه وأن هذه الحكومة من باب المشاركة لا المغالبة تقتضى منتخبا من القوى السياسية كافة يشكل الحكومة وقد يكون الإخوان هم رأس الحربة فى هذه الحكومة أو قلب دفاعها أو حتى جناحها الأيمن باعتباره الفريق الفائز بالانتخابات البرلمانية والحاصل على ثقة الشعب، لكن التنازل المجانى عن تشكيل الحكومة هو فى حقيقة الأمر تفريغ للديمقراطية من أهدافها.
تبقى النقاط الأهم عند الإخوان التى يتهربون منها عند الحديث عن الحكومة:
- أن وضع البلد صعب وامتحانهم فى هذه الفترة تحديدا قد يكشفهم أو يحرق المراهنة عليهم فيفضلون أن يلبسها غيرهم.
- أن تشكيل حكومة سيفرض صداما مع المجلس العسكرى يدخرونه لوقت عوزة يحددونه هم ومن ثم لا يستعجلونه.
- أن تشكيل الحكومة سيطرح علاقة رئيسها بوزير دفاعه الذى هو رئيس المجلس العسكرى ذات نفسه فى مفارقة مصرية خالصة.
بالمناسبة مجلس الوزراء منذ الثورة لم يجتمع كاملا لغياب وزير دفاعه عن الاجتماعات، ولا تسأل عن قانونية ذلك فأحيانا تسمع من الجنرالات ضرورة احترام القانون وأن الثورة لا تعنى تغييب القانون، وأحيانا تسمع منهم أن البلد فى ظروف استثنائية وليس مهما قانونية الشكل، صيحة «أين القانون؟» تذكّرنى بفيلم «ريا وسكينة» حيث جلس ممثل فى صالون الحلاقة يقرأ فى جريدة عن حوادث خطف النساء فى الإسكندرية ويردد بصوت عالٍ فقرة من المقال تسأل: أين البوليس؟ أين البوليس؟
ممثل آخر يسمعه علق على السؤال قائلاً: ياه! حتى البوليس مش لاقيينه؟!

Tuesday, December 27, 2011

XkaNdarany -- إكسندراني: Muhammad Ali Pasha

XkaNdarany -: Muhammad Ali Pasha: Muhammad Ali Pasha and his family ruled Egypt for more than 147 years, and today they remain very much a part of modern Alexandria and...

من أوراق أبو نوّاس- أمل دنقل --



آه
من يوقف في رأسي الطواحين
ومن ينزع من قلبي السكاكين
ومن يقتل أطفالي المساكين
لئلا يكبروا في الشقق المفروشة الحمراء خدّامين
من يقتل أطفالي المساكين
لكيلا يصبحوا في الغد شحاذين
يستجدون أصحاب الدكاكين وأبواب المرابين
يبيعون لسيارات أصحاب الملايين الرياحين
وفي المترو يبيعون الدبابيس وياسين
وينسلون في الليل
يبيعون الجعارين لأفواج الغزاة السائحين
...
هذه الأرض التي ما وعد الله بها
من خرجوا من صلبها
وانغرسوا في تربها
وانطرحوا في حبها مستشهدين
فادخلوها بسلام آمنين
ادخلوها بسلام آمنين.

شهادة جيران مجلس الوزراء: اعتداء الجيش علي المتظاهرين

Monday, December 26, 2011

تقرير دولي: «العسكري» استخدم فسفور أبيض وغاز أعصاب وأسلحة محرمة دوليا ضد المتظاهرين



 Mon, 12/26/2011 - 14:09
كشف تقرير دولي صادر عن "المفوضية الأوروبية"، أن المجلس العسكري استخدم أسلحة قنابل محرمة دوليا لضرب المتظاهرين في شوارع القاهرة ومحافظات أخرى، يستحق من أصدر الأوامر باستخدامها المحاكمة في "المحكمة الجنائية الدولية" كمجرم حرب.
التقرير الطبي أعدته لجنة مكونة من 100 متخصص، من علماء الكيمياء، والحرب الكيماوية، والأطباء، وثقوا فيه جرائم استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المتظاهرين، في شارع محمد محمود، وميدان الممر في محافظة الإسماعيلية، وسموحة في الإسكندرية، في الفترة من 19 إلى 24 نوفمبر 2011.
تقرير الحالة التشريحية لعينات من صدور وأمعاء الضحايا، أكد امتصاص أجسام عدد منهم الفسفور الأبيض، أدى استنشاقها أو التعرض لتركيزات من دخانها إلى آثار قاتلة، كما أثرت على الأعين الأغشية المخاطية والجهاز التنفسي للمصابين، مما أسفر في بعض الحالات عن إتلاف الرئة.
التقرير لاحظ أيضا وجود تركيزات من الفسفور على الجلد والجهاز التنفسي، بنسبة 0.07 ملجم/متر مكعب، لـ126 مصابا، وتشبع الرئة والكلى والكبد بالفسفور الأبيض القاتل.
اللجنة أشارت إلى أن الفسفور الأبيض إذا ما انتشر في الجو، لا يؤثر على ملابس المصاب، ولكنه يتغلغل داخل الجسم، ويذوب حتى العظام، ويؤدي استنشاقه إلى الموت، وبتدأ التغيرات على الجثة خلال 24 ساعة، لتتحول إلى ما يشبه جثة مشوهة نتيجة الاحتراق.
غاز الفسفور الأبيض الذي استخدمه الجيش المصري ضد المتظاهرين، سبق وظهرت خطورته عندما كشفت منظمات حقوقية عديدة استخدام الجيش الإسرائيلي الغاز ذاته في حربها ضد قطاع غزة أواخر 2008، مما تسبب وقتها في تشوه كبير لجثث شهداء القطاع.
كما أشارت اللجنة إلى أن الجيش المصري استخدم أنواعا أخرى من الأسلحة الكيميائية ضد المتظاهرين، جاءت على رأسها "قذائف الكلور"، وغاز الأعصاب VX الذي وصفته اللجنة بأنه من الذخائر القاتلة، ويعتبر من الأسلحة الفتاكة التعجيزية، التي تسبب الغثيان والمشكلات البصرية الخطيرة، بالإضافة إلى غاز "الفوسجين" الذي يسبب الاختناق والتشنجات والشلل وفقدان الوعي.
اللجنة شددت على أنها تأكدت من وجود تلك المواد الكيميائية من خلال تحليلها فوارغ المقذوفات، وعينيات من بول ودم المصابين والشهداء، في شارع محمد محمود في القاهرة، وشارع الممر في الإسماعيلية، وسموحة في الإسكندرية، وأشارت إلى أنه لهذا السبب كان يرتدي جنود الجيش المصري الأقنعة والدروع الواقية للبدن.
التقرير ضم أيضا وثائق تبين المواني التي كانت تصدر منها الأسلحة الكيميائية وعددا من القذائف والطلقات المشبعة بالفسفور الأبيض وغازات الأعصاب وباقي الأسلحة الكيميائية، بالإضافة إلى قنابل الغاز المسيل للدموع CR وCS والخراطيش في صفقات تمت من الباطن مع شركات أمريكية مثل شركة "تنمية الصناعات العسكرية الأمريكية" التي تتخذ من بنسلفانيا مقرا لها ولديها فرع آخر في تل أبيب!
تلك الصفقات تم تصديرها بدءا من مارس حتى ديسمبر 2011 وانطلقت من أكثر من ميناء تابع للجيش الأمريكي من نيويورك وكارولينا الشمالية، ووصلت إلى موانئ السويس وبورسعيد والإسكندرية.
المشكلة الكبرى تكمن في أن تلك الأسلحة خرجت من أمريكا ودخلت مصر تحت اسم "أسلحة وأدوات دفاع"، رغم أنها تحوي أسلحة محرمة دوليا حسب التقرير، مما قد يشير إلى تواطؤ أمريكي في تصدير تلك الأسلحة لمصر.
كما أكد التقرير أن الموقف القانوني لما وقع من أحداث خلال تلك التظاهرات يشير إلى أن ما حدث يخالف الإعلان الدولي، بشأن قوانين أعراف الحروب، والمادة 23 التي تحظر استخدام القذائف ونشر الغازات الخانقة، وبروتوكول جنيف 1925 لحظر الأسلحة الكيماوية الذي وقعت عليه مصر.
اللجنة قدمت إخطارات لعدد من المنظمات الدولية، مثل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي، وبرامج السياسة الإنسانية وأبحاث النزاعات التابع لجامعة هارفارد، لاطلاعها على نتائج التقرير، الذي وثق للانتهاكات، التي ارتكبتها قوات الجيش، ومطالبتهم بتحمل مسئوليتهم الأدبية والدولية تجاه جرائم الحرب التي ارتكبت بحق الشعب المصري.
التقرير الخطير بات كذلك ورقة إدانة كبيرة ضد أمريكا وطالب معدوه المنظمات الدولية بضرورة إدانة واشنطن، لأنها زودت الجيش المصري بأسلحة محرمة دوليا، لا يمكن استخدامها في أي من الحروب التي تخوضها أمريكا أو مصر، لأنهما موقعتان على بروتوكول جنيف لحظر الأسلحة الكيماوية، أي أنها ارتكبت جريمتين بتصنيع تلك الأسلحة المحظورة وبتصديرها إلى دول أخرى.
ذلك التقرير العلمي الذي أعدته لجنة من 100 متخصص من علماء الكيمياء والحرب الكيماوية والأطباء نفى عن نفسه من جانب آخر الشبهات والذرائع التي يتخذها العسكري بالحديث عن التدخل الأجنبي في الشئون المصرية، فرئيس اللجنة وأعضاؤها من القامات العلمية البارزة حيث ترأس فريق البحث د. طارق جلال سعود أستاذ تحليل الغازات المنبعثة وغازات الأعصاب. وضم الفريق في عضويته، حسن الشوربجي أستاذ غازات الأعصاب، وخالد السباعي أستاذ التشريع بجامعة كمبريدج، وأميمة صبري أستاذة غازات الأعصاب في جامعة كاليفورنيا، وجمال إبراهيم أستاذ الفيزياء بجامعة جورج تاون، وأحمد معتز أستاذ الجراحة العامة في طب قصر العيني، المتحدث باسم اللجنة، ومختار الشناوي أستاذ الأشعة بجامعة كاليفورنيا، وكامل محمد سعيد أستاذ القانون الدولي بجامعة جنيف، وأشرف وليم غالي أستاذ الجراحة بجامعة لوزان بسويسرا، وريتشارد بيير روماني أستاذ الحرب الكيميائية بجامعة كمبريج.

نظرية ذيل الكلب


لا يوجد أى اختراع علمى أو طبى على مدى مئات السنين نجح فى أن يعدل ذيل الكلب، ومن ثم لا يمكن أن تتوقع أن يتغير هؤلاء الذين عملوا خدامين لمبارك ونجله فى التليفزيون والفضائيات الخاصة ويتحولوا إلى رجال محترمين لهم كلمة ولديهم استقلالية، إطلاقا إنهم نوع من المماليك الذين لا يجيدون إلا تأجير سيوفهم لأسيادهم، لا أمل فيهم ولا منهم!
نفس الذين نافقوا مبارك وحاربوا الثورة والثوار بمنتهى الصفاقة والكذب والتضليل من مقدمى البرامج المسائية حتى مقدمى البرامج الرياضية من الذين رقصوا لجمال مبارك وركعوا لمبارك ولعقوا لأمن الدولة هم الذين سارعوا ليقدموا فروض الولاء والطاعة والنطاعة نفاقا للمجلس العسكرى ويخلعون الأقنعة الممزقة عن وجوههم، تلك التى حاولت أن تخفى كراهيتهم العميقة للثورة والثوار طيلة شهور سبقت، حتى تيقنوا أن المجلس العسكرى يكره الثورة كما يكرهونها ويلعن الثوار كما يلعنونهم ويطعن فى سيرتهم وسمعتهم، فانطلقوا ينهشون بنفس المخالب وذات الحوافر لحم الثوار وسط مباركة ورضا وحفاوة وتشجيع من المجلس العسكرى!
نفس تليفزيون صفوت الشريف وأنس الفقى هو تليفزيون إسماعيل عتمان وأسامة هيكل وأحمد أنيس.

Sunday, December 25, 2011

إجهاض الثورة وإبقاء الفورة -- يوسف زيدان






صار واضحاً لكل مَن يتأمل المشهد المصرى المعاصر، المتدفقة أحداثُه على نحو يُحَيِر العقول والأفهام، أن هناك توافقاً على إبقاء الفورة وإجهاض الثورة . بمعنى تغييب المفهوم العميق للثورة التى اندلعت أواخر يناير الماضى، واستمرار الفوران والهياج قائماً فى ربوع البلاد، لأسباب علنية، وأخرى خفية، وثالثة تآمرية. وهو الأمر الذى يظهر عبر عدة تجليات، منها مايلى: الترديدُ الأجوف لعبارة «الثورة المصرية لن تموت» من دون بيان لماهية هذه الثورة.. توالدُ ما صار يسمى «المطالب الفئوية»، التى هى أقل بكثير من الغايات السامية للثورة.. تفاقمُ الأزمات المفتعلة وتهييج السواكن لإشاعة القلاقل.. الاعتصاماتُ والاضطراباتُ والاستهاناتُ الفَجة بكل القواعد، ابتداءً بقواعد المرور حتى القوانين والأعراف الدولية. وهذه كلها دلائل على استبقاء الفوران، لأغراض متعددة لدى أصحاب المصالح، وهى فى الوقت ذاته استبعادٌ للقيمة الجوهرية للثورة المصرية وإجهاضٌ لها.
■ ■ ■
قامت الثورة المصرية أصلا، ضد حالة الاحتقار الحكومى للناس، وقد أثبت «الجمهور» من خلالها أنه أقوى من حكامه. كما قامت للقضاء على مشروع توريث الحكم (الجمهورى) وقد قُضى عليه، وللمطالبة بإزاحة رئيس الجمهورية عن الكرسى الذى التصق به، وقد أُزيح، ولمحاسبة رموز النظام السابق ومحاكمتهم، وهم الآن يُحاكمون. ثم أعلن جمهورُ الثائرين أنهم يطمحون إلى بناء دولةٍ تقوم على القيم الإنسانية: المساواة والعدل والحرية، وهو الأمر الذى يستلزم العمل الطويل الشاق لإصلاح ما أفسده الدهر خلال الثلاثين عاما (المباركية) والستين عاما (الضباطية الأحرارية).. ولكن بدلاً من التعاون من أجل هذا البناء، انتشر التنازع، فتوالى التخريب وصرنا نتدهور على الصعيد العام ونتقهقر يوماً بعد يوم.
وفى هذه السباعية، نقوم بتحليل الأسس التى يعتمد عليها التخريب الثورى الهادف إلى إجهاض الروح الحقة للثورة، وإبقاء الفوران والتوتر المؤدِى إلى التدهور العام.. وأول هذه الأسس، فيما أرى، هو المعنى الذى جعلته عنواناً لهذه المقالة مُكرِراً به عنوان مقالةٍ كتبتها قبل سنوات.
فقبل عشرين عاماً، مرت بنا حالةٌ من الإعتام الذهنى والذهول تشبه ما نمر به اليوم، لكنها كانت تجرى وقتها على نحوٍ أخفَ بكثيرٍ مما نعانيه اليوم ونعانى منه، لأن المصيبة التى وقعت آنذاك بدت لنا أخف وقعاً وأقل تأثيراً. فأيامها، فوجئ الناسُ بغزو «صدام» للكويت، وهو الأمر الذى تطوَر بسرعة إلى مواجهة عسكرية بين أمريكا (والحلفاء العرب والأوروبيين) والجيش العراقى بزعامة صدام.
فكانت المأساة المعروفةُ بحرب الخليج الثانية، على اعتبار أن حرب الخليج الأولى وقعت قبلها بسنوات بين صدام حسين ونظام الملالى وآيات الله فى إيران.. ومع أن عشرات الآلاف من العراقيين لقوا حتفهم أيامها، بغير حقٍ ولا هدىٍ ولا صراطٍ مستقيم، إلا أن بعضهم اعتبر ما يجرى على الساحة العراقية ليس حرباً، بل هو أقرب إلى ألعاب الفيديو (حيث يتخذ كل إنسان فى العالم موقعه الاستراتيجى أمام شاشة التليفزيون، كى يرى أنواراً تبرق فى الظلام، ثم يسمع عن عدد القتلى، من دون أن يشاهد جندياً يقاتل الآخر على الأرض.. الفيلسوف الفرنسى «بودريارد» هو الذى كتب ذلك).
أيامها، أطلق صدام على الصحراوات الإسرائيلية صواريخ غير مؤثِرة إلا فى نفوس العرب، وهى التى وصفها الرئيسُ المصريُ المتنحى (المتنيح) مبارك آنذاك بأنها نوعٌ من «البمب» قاصداً بذلك السخرية منها، لأن حكام العرب عموماً لا يحبون محاربة إسرائيل، ولو كذباً وزوراً. المهم، أن المآسى التى كانت متوقعة من حرب العراق وقعت، ولاتزال تقع إلى اليوم، ولا يعلم إلا الله متى سوف تتوقف. وفى تلك الأيام سادت بمصر حالة من (التوهان) والاضطراب فى الإدراك، وتضاربت الآراء، وقلَ الفهم وكثر الكلام.. تماماً مثلما يحدث اليوم.
وأيامها، انعقد مؤتمران إسلاميان كبيران، أحدهما فى بغداد برعاية «صدام» والآخر فى الرياض برعاية حكام الخليج. وكان كلا المؤتمرين يهدف إلى بيان حكم الدين (الإسلامى) فى الحرب التى كانت على وشك الوقوع، وقد انتهى كلاهما إلى أن الدين القويم يقف إلى جانبه، والطرف الآخر خارج عن الشرع، وقتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار.. كلاهما قال ذلك، وقدم عليه الأسانيد الشرعية.
وأيامها، كتبت مقالةً فى جريدة الأهرام (يوم كانت الكتابة فى الأهرام شرفاً كبيراً)، وكان عنوان المقالة، هو عنوان مقالتى اليوم: المواجهة مع الجنون.. وهو أحد المفاهيم التى استعرتها، لفظا ومعنى، من فلسفة «ديكارت»، التى عرضها فى كتابه الشهير (التأملات)، واصفاً رحلته العقلية من الشك إلى اليقين، والمراحل التى قطعها، ابتداءً من افتراض أن كل ما نراه من حولنا هو وهمٌ وخيالٌ لا حقيقة فيه، لأن الحواس مضلِلة، وقد يكون هناك شيطان ماكر يسعى لتضليل العقل وتبديد اليقين، ومن ثم فإن الإنسان العاقل لابد له من الشك فى وجود العالم، والشك فى وجود الله، والشك فى وجود ذاته أيضاً.
وهنا تكون حالة «المواجهة مع الجنون» نظراً لانعدام اليقين فى كل الأمور، وعدم قدرة العقل على الإمساك بأى حقيقة فى غمرة الشكوك الكثيرة ثم يخرج ديكارت من ذلك، بخطوة يسميها دارسو الفلسفة (الكوجيتو) أو إثبات وجود الذات، وذلك على أساس القاعدة المشهورة : أنا أشك إذن أنا موجود. لأنه مهما أحاط بنا ظلام الشك، فهو لن يحجب عنا حقيقة أننا الآن نشك، أى نفكر، أى موجودون . ولأن الشك نقصٌ، فهذا يفترض وجود كائن كامل (إله)، وإلا ما كان من الممكن لنا إدراك هذا النقص الموجود فينا، إلا بالقياس على الوجود الإلهى الكامل . ولأن الله كامل، وعادل، فلن يسمح للشيطان الماكر بالسيطرة على عقولنا.
ومع أن هذه المسيرة العقلانية (الديكارتية) الممتدة من الشك إلى اليقين، تُعجب كثيرين، إلا أننى أراها أقرب إلى النزعة المسرحية «المسطحة» بأكثر مما هى قريبة من التفلسف العقلانى الأصيل. لكن الذى كان يهمنى منها قبل عشرين عاما، ويهمنى اليوم، هو تلك الحالة المسماة: المواجهة مع الجنون.. وهى الحالة التى تحدق بنا اليوم، مثلما أحاطت بنا قبل عشرين عاماً بدرجة أقل مما يجرى اليوم، وما سوف يجرى غداً.
إن العقل الجمعى فى مصر، والعقل الفردى أيضاً، صار يواجه فى الفترة الأخيرة حالةً مريرة من انعدام الفهم، وفقدان القدرة على الإدراك، والعمى عن الرؤية الكلية للوقائع. وهو ما يقود بالضرورة إلى حالة «المواجهة مع الجنون»، التى تتجلى فى قولنا لبعضنا بعضا، بالعامية: «ماحدش فاهم حاجة، إحنا مُش عارفين رايحين على فين، هىَ شكلها كده باظت، ياعم مفيش فايدة، الثورة دى خربت بيوتنا، دى أصلاً مُش ثورة، مبارك لسَه بيحكم مصر».. إلى آخر هذه التعبيرات وأمثالها.. ثم 
تزداد حالة الخبل العام، وغياب الإدراك، مع انتشار صيغ التشتيت الذهنى، التى يقوم الإعلامُ بدورٍ كبيرٍ فى زيادة طينها بلَة.
وهناك كثيرٌ من الدلائل والشواهد على فقدان المنطق فى الأحداث التى تجرى اليوم من حولنا، وتقودنا إلى حالة «المواجهة مع الجنون» فمن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر: أَمانُ الكنائس فى الأيام الأولى للثورة وأثناء انهيار الشرطة، والتحام المصريين أقباطاً ومسلمين آنذاك، ثم انفجار أحداث الفتنة بعد ذلك، كلما كادت الأحوال العامة تستقر.. حدوثُ الأزمات لأسبابٍ واهيةٍ أو وهمية.. تهديد العمل بقانون الطوارئ، مع عدم استعماله.. الاحتراق والاختراق المفاجئ لمقار أمن الدولة، ثم حلها، ثم الإبقاء عليها تحت اسم جديد.. الجاسوس الإسرائيلى (العلنى) الذى يظهر فى وسائل الإعلام، ثم تسليمه بعد القبض عليه فى صفقة غير مفهومة.. إسرائيل تصبح وديعة جداً، فجأة.. امتلاء وسائل الإعلام بكلام مرشحى الرئاسة، مع أن «الترشيح» لم يُعلن أصلاً عن موعدٍ له.. تعليق بعض الحملات الانتخابية للرئاسة، واحتدام بعضها الآخر، مع أن أحداً لم يتقدم أصلاً للترشح الذى لم يفتح بابه..
لا أحد يعلم متى يُفتح الباب، ومتى يُترك موارباً، ومتى يغلق.. تعلية الأدوار المخالفة لقوانين البناء فى الإسكندرية (مائة ألف مخالفة) مع ارتفاع أسعار الشقق بهذه الأدوار الآيلة للسقوط.. هدم مبنى محافظة الإسكندرية وهروب المحافظ، ثم تعيينه من جديد محافظاً (بناءً على طلب الجماهير).. إقالة «شفيق» رئيس وزراء مصر بجرَة قلم، فجأة، والإبقاء على المديرين الذين يعتبرهم الناس فلولاً.. اعتبار كل متعامل مع النظام السابق (فلول)، مع أن المجلس العسكرى ورئيس الوزراء الحالى، ومعظم وزرائه، كانوا يعملون فى ظل النظام السابق ويتعاملون معه.. خروج خمسين ألف «سلفى» يتظاهرون لنصرة شيخهم الذى شتم شيخ الأزهر ومفتى الديار..
مؤشر البورصة ينهار بالأمس والتداول يفقد خمسة مليارات، مؤشر البورصة يرتفع اليوم والتداول يحقق ثمانية مليارات.. الاقتصادُ ينهار والناسُ تطلب مزيداً من المزايا الوظيفية.. إضراب العاملين بالمطارات ممن تتراوح رواتبهم بين أرقام يحلم بها معظم الناس.. إغلاق مكتبة الإسكندرية.. ولا تكاد تنتهى هذه الأمثلة الدالة على الهوس الجماعى، و«الجنون» الذى يجتاح البلاد والعباد.
■ ■ ■
ومن المعروف أن «الجنون» هو فى واقع الأمر مفهوم اجتماعى، لا يمكن تحديده إلا فى إطار البنية الثقافية السائدة، وهو الأمر الذى عرض له الفيلسوف الفرنسى المعاصر «ميشيل فوكوه» فى دراسته البديعة (تاريخ الجنون فى العصر الكلاسيكى)، التى أظهرت أن الحكم على الفعل الإنسانى بالجنون، يرتبط بالمفاهيم العامة السائدة بين الجماعة. ولذلك فإن الشخص الذى يُعدُ مجنوناً فى مجتمع، قد يكون فى مجتمع غيره شخصاً عادياً، وربما يعتبر فى مجتمع آخر مبدعاً، أو ولياً من أولياء الله، أو عبقرياً.. ومن هنا تأتى ضرورة ُ التحديد الدقيق لما أقصده هنا من كلمة (الجنون) وضرورةُ التنبيه إلى خطورته على المجتمع المصرى فى هذه الفترة الحرجة، جداً، وضرورةُ طرح بعض السبل للخروج مما نحن فيه.. وفى ذلك أقول والله المستعان:
أما معنى (الجنون)، الذى يواجه العقل المصرى المعاصر فى أيامنا الحالية، فهو عدم القدرة على إعمال المنطق فى الأحداث الجارية، والعجز عن فهمها، بسبب ما يسمى «الضبابية» أو بسبب تضارب الآراء حول كل صغيرة وكبيرة، أو بسبب الصخب الدائم الذى يحول دون التبصٌر فى مجريات الأمور.. وهو الأمر الذى تظهر آثاره كل لحظة فى نشرات الأخبار، وفيما نراه عياناً من فوضى فى الشارع المصرى، وغير ذلك من الآثار التى أشرنا لأمثلة منها.
ما خطورة الأمر؟ هذا سؤال ساذج، تكفى للإجابة عنه حقيقة واحدة يعلمها كل إنسان فى مصر، هى أن انتخابات مجلسى الشعب والشورى (الوشيكة) سوف تكون مسرحاً دموياً، ولن تنجو البلاد من فوضاها إذا جرت فى الظروف الحالية. ومع ذلك نمضى قُدُماً إليها دون الإعلان عن ضوابط لها، كمن يُساقون إلى الموت وهم ينظرون! بالمناسبة، رأيت مؤخراً لافتات انتخابية مؤيدة، تحمل اسم أشهر بلطجية مصر قاطبة، على مرأى ومسمع من الجميع.
إذن، لا مجال للجدال حول خطورة حالة «المواجهة مع الجنون» ولا معنى للتقليل من شأنها، لانشغال الناس وانهماكهم فى أمورٍ عجيبةٍ، ما توصف به، هو أنها أمور تافهةٌ، وليس لطرحها الآن أى مشروعية، بينما البلاد تتجه بقوة إلى شفا هاوية الانهيار.
ما الحل؟
ذكرت ُفى مقالات سابقة، ما قاله أطباؤنا القدامى (الحكماء) من أن هناك فرقاً بين الأسباب والعلامات، أو بين المرض والعَرَض. وقد أكَدوا فى كتاباتهم المبهرة على مسائل مهمة، منها ضرورة تدبير (علاج) المرض لا العَرَض، أو السبب لا العلامة.. ومنها أن الأمراض تُعالج بأضدادها، بمعنى أن الإصابة بالبرد مثلاً، يكون علاجها بالتدفئة.. ومنها ضرورة المبادرة إلى المرض الأقتل (الأشد ضرراً) إذا ما اجتمعت على البدن عدة أمراض فى الوقت ذاته.. ومنها ضرورة التداوى أولاً بالأغذية، ثم الأغذية الدوائية، ثم الأدوية المفردة، ثم الأدوية المركبة، ثم الجراحة إن لزم الأمر.
وفى ضوء ما سبق، وتنزيلاً على الحالة المصرية (المرضية) الحالية، فإن الحلَ فيما يتعلق بمواجهة العقل المصرى (الجمعى) للجنون، بالمعنى الذى أشرنا إليه، هو الاستمساك بالمنطق قبل أى شىء.. فلا (الديمقراطية هى الحل) ولا (الإسلام هو الحل) ولا (الكنيسة هى الحل) ولا (أمريكا هى الحل) ولا غير ذلك من الشعارات والأفكار النمطية، سوف تخرج بنا من الحالة الحالية.. وهذا ليس نقضاً لهذه الشعارات والأفكار، فى حدِ ذاتها، وإنما هو تبيان لعدم ملاءمة واحدٍ منها، لسبب بسيط هو أنها لا ترتبط بالحالة التى تشكو منها البلاد.
إن الهوس الجماعى علاجه التعقل، والجنون السارى فى جميع المسالك علاجه المنطق، والخبل العام الذى ساد مؤخراً علاجه التَريث.. الآن سوف يثور معترض (وكلنا اليوم ثائرون ومعترضون) فيقول إن هذا الكلام نظرىٌ، ولا ارتباط له بما يجرى فى الواقع.. وفى الواقع، فإن أى حلٍ عملى لابد أن يسبقه إطارٌ نظرى، وإلا وقع الناس مجدداً فى حقل التجارب الذى ظل منصوباً بعموم البلاد منذ ستين سنة، تحت حجة «التجربة الثورية، التجربة الديمقراطية، التجربة الاقتصادية المفتوحة على البحرى...إلخ، وهو ما أدى إلى اهتراء البدن العام من كثرة التجريب.
كيف يكون الحلُ (النظرى) السابق ذكره، أساساً للحلول العملية؟.. يكون بنقيض الحالة العملية السائدة المرضية. فإذا كانت من أسبابها مثلاً، كثرة المطالبات وهيجان المزايدات وتوالى الاعتصامات، خرجنا من ذلك بفقه الأولويات، بمعنى أن ننظر منطقياً فى الأهم ثم المهم ثم الأقل أهمية ثم التوافه. فلا نسارع إلى الاهتمام بحشد عشوائى كهذا الذى قام به العاملون بشركة العامرية للغزل، وأدى إلى قطع كورنيش الإسكندرية منذ أسبوع، للمطالبة بأمرين لا معنى للجمع بينهما: إقالة مجلس إدارة الشركة، صرف 210 جنيهات شهرياً بدل وجبة غداء! وبينما المرور متوقف، سألت أحد الثائرين إن كان يصح تعطيل مصالح الناس على هذا النحو، فقال إن مصالحهم معطلة ولا يهمهم الآن الآخرون، قلتُ له يمكن للحكومة أن تعطيكم المبلغ الذى تطلبون، لكنه لن يُغنى عن شىء لأن التضخم سوف يأكل الزيادة، وزيادة، قال ساعتها سوف نطالب من جديد بالمزيد!
وإذا كان من أسباب الحالة الحالية، الاستهبال، عالجنا ذلك بالحزم. وإذا كان من أسبابها التشويش الإعلامى على العقول، عالجنا ذلك بالانصراف عن برامج الهرج الإعلامى إلى خطط العمل وإعمال العقل والمنطق فى الوقائع والأخبار . وإذا كانت كثرة الكلام سبباً، فالعلاج الصمت.. وعلى هذا النحو نسير على درب تدبير (علاج) المرض بضده.
■ ■ ■
ومن صيغ «إجهاض الثورة وإبقاء الفورة» ما سوف تتوقف عنده مقالة الأسبوع القادم التى سيكون عنوانها: الهروب إلى الله، هرولةً.. فإلى لقاء.

فور انفجار الغضب الشعبى فى السويس والقاهرة والإسكندرية، وهو ما سيعرف لاحقاً باسم «ثورة 25 يناير» حدث ارتباك كبير فى رؤوس المؤسسات المصرية، ابتداءً من مؤسسة الرئاسة التى كانت قد شاخت وانعزلت عن الشارع المصرى ومعاناته، بالمواكب والبذخ والإعلام المزيف والتقارير المغلوطة وهتافات حاشية السوء.. على نحوٍ كان دوماً يذكرنى بقصيدة لمحمد عفيفى مطر، يقول فيها بلفظٍ قريب:
حاشية الحثالة فى مواكب الصيد
هرّاجون بالفوضى،
ومحبوكون فى لغوٍ
من الزور المضفَّر
مجد، ولا شرفُ
والشعب تحت عراء العار
ينجرفُ
قد يسلم الشرف المأبون
فى زمنٍ،
ديوثه الصحفُ
وفى محاولة بائسة، لم يكتب لها النجاح، حاولت المؤسسات المصرية المرتبطة بمؤسسة الرئاسة أن تتكاتف معاً لعبور ما كانت تتصور أنه «أزمة» سوف تمر، مثلما مرت أزمات أخرى تمت السيطرة عليها والتعريض بها بوصفها بشائع من نوع «انتفاضة الحرامية»، وهو الوصف الذى أطلقه الرئيس السادات على حركة 18 و19 يناير 1977 (لاحظ أنها جرت أيضاً فى شهر يناير) أو حركة الأمن المركزى التى أجهضها نظام مبارك فى فبراير 1986 (لاحظ أن هذين الشهرين، يناير وفبراير، يرتبطان بثورات المصريين).. ونظراً لهذا التمرُّس فى عمليات الإجهاض للحركات الشعبية ظن القائمون على حكم مصر أن أمر الثورة المصرية التى اندلعت قبل شهور من الممكن السيطرة عليها بوسائل بائسة، قديمة، مثل ترضية صفوت الشريف للناس بقوله العامى العمومى «مطالب الشعب فوق راسنا» أو بدفع جهاز الشرطة بكامله إلى الشوارع، ومن بعده قوات الجيش (وهو ما فعله مبارك سنة 1986 فكان نافعاً له).. وفى هذا السياق تكاتفت المؤسسات المرتبطة بالرئاسة لعبور ما ظنوه محنة عارضة لن تلبث أن تنقضى وتعود من بعدها المياه إلى مجاريها، ولذلك رأينا أيامها الابتذال الإعلامى الحكومى ومحاولات الالتفاف على المطلب الشعبى العام بطريقة «لم أكن أنتوى الترشح للرئاسة من جديد» والاستعطاف الخفى للجماهير بطريقة «أفنيت عمرى فى خدمة هذا الوطن».. إلى آخر ما نعرفه جميعاً من محاولات التسويف والمماطلة والمخايلة، التى كانت كلها محاولات فاشلة.
وفى ثنايا هذه التحركات الحكومية، جاءت دعوة شيخ الأزهر إلى المتظاهرين للقدوم إلى «ساحة الأزهر الشريف للحوار»، وهى الدعوة التى لم تلق من الثائرين أى اهتمام، وكذلك الأمر مع دعوة قداسة البابا شنودة لشعب الأقباط للحضور إلى مقر البطريركية (البطرخانة) بالعباسية للحوار، ولم يحضر أحد، وهنا يجب ألا تفوتنا عدة أمور مهمة، منها أن الدعوتين كانتا متزامنتين، بل فى الوقت ذاته تقريباً وللهدف ذاته، وهو ما يعكس طبيعة التوافق فى الفعل، على الرغم من اختلاف الديانة، ومنها أن الدعوتين كانتا تناشدان الثائرين للحضور إلى المكانين المفروض فيهما أنهما مكانان مقدسان، ولم يفكر صاحبا الدعوتين (شيخ الأزهر، قداسة البابا) فى الذهاب إلى الثائرين بميدان التحرير أو بميدان محطة الرمل بالإسكندرية، أو حتى السويس، لأن الهدف من كلتا الدعوتين كان استدعاء الناس إلى المكانين المتميزين بنوع من القداسة الدينية، ومنها أن عدم الاستجابة للدعوتين كان دليلاً آخر يؤكد ما قرره عالم الاجتماع الفرنسى الشهير «إميل دوركايم» من أن القداسة فعل اجتماعى لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن جمهور الناس، لأنه لا يوجد مقدس فى ذاته، وإنما تتقدس الأشياء بتقديس المؤمنين بها، ولذلك مثلاً فإن «الكعبة المشرفة» مكان مقدس عند المسلمين، لكنها عند الهندوس أو اليهود أو البوذيين (وغير المسلمين عامة) لا تعنى أى شىء، وليس فيها قداسة ذاتية.
لكن الأمر «الأهم» من تلك الأمور المهمة السابقة هو أن انصراف الثائرين، مسلمين كانوا أم مسيحيين، كان آنذاك يعود فى المقام الأول إلى أن هدف الثورة المصرية، أو أهدافها المعلنة (إحباط محاولات التوريث، رحيل الرئيس، إسقاط النظام) هى جميعاً مطالب ترتبط بالواقع الفعلى، لا بالمعتقدات الدينية، أو هى بعبارة أخرى: دنيوية لا دينية، أرضية لا سماوية.
■ ■ ■
وبعدما نجحت الثورة المصرية فى تحقيق مطالبها الأساسية، خلال أقل من شهر، كان من الواجب على الثائرين استكمال مسارهم الثورى بتكريس مناهج البناء وخطط العمل لإنقاذ الوطن الذى كان قد اهترأ خلال الستين عاماً (الضباطية الأحرارية) والثلاثين عاماً المباركية، غير المباركة.. لكن الناس فى مصر، لقصور وعيهم بطبيعة الفعل الثورى الرشيد، ولغياب مفهوم «التغيير» عن أذهانهم بكل ما يشتمل عليه هذا المفهوم من شروط للنجاح، أولها الانهماك فى العمل الدؤوب لتعويض ما فات البلاد من فرص للتطور، ولكثرة المشوشات وتضارب الآراء وهيجان المهيجين الذين تصدروا الساحات الإعلامية- (ولأسباب أخرى كثيرة) نسى الناس أنه لا توجد ثورة فى المطلق، وأن الذين يطرحون أنفسهم على الناس على أساس أنهم «ثائرون أبد الدهر» هم فى واقع الأمر أشخاص مأزومون أو مخادعون أو فارغون، فكانت النتيجة أن تم استبقاء الفورة والتوتر العام والهيجان الدائم باسم عدالة المطالب الفئوية وباسم العبارة الجوفاء «عاوز حقى يا بلد» وباسم التفتيش عن الفلول، وباسم «إحنا آسفين يا ريس» وباسم «إحنا آسفين يا ريس لأننا صبرنا عليك 30 سنة» وباسم مؤيدى المجلس العسكرى، ومعارضى المجلس العسكرى.. إلى آخر هذه الترهات التى هى أقرب إلى الحجج الواهية التى تبرر للكثيرين القعود عن العمل والإنجاز، حتى يتحقق التطهير التام، وتصير البلاد فردوساً سماوياً من دون جهد حقيقى إلا فى الهتاف والاعتصامات وقطع الطرق وحرق المبانى التابعة للداخلية التى انهارت، وتهرأت، ثم اشتكى الناس من فقدان الأمن وانعدام الشعور العام بالأمان.. بعبارة جامعة، أدى إجهاض الثورة بهذه الطريقة، وإبقاء الفورة، إلى تتابع موجات اليأس على نفوس معظم المصريين، الذين تضرروا من الثورة التى لم تكمل مسارها الرشيد، لنقص الوعى الثورى، مما أدى إلى الشعور العام بالقتامة والضبابية وحالة «المواجهة مع الجنون» التى تحدثنا عنها فى مقالة الأسبوع الماضى.
ومادامت أمور الدنيا قد اضطربت فلا مهرب من الأرض إلا بالعروج اليائس إلى السماء (على مستوى الشعور لا الواقع الفعلى)، ولذلك تزايدت فى مصر خلال الأشهر الماضية حالات الفزع الهستيرى على الدين! فمن فتن الكنائس إلى جمعة قندهار إلى «إسلامية إسلامية» إلى مأساة ماسبيرو إلى الفزع من السلفيين، إلى استعلان المتصوفة فى الميادين، إلى الإقبال الكبير على العمرة والحج إلى عودة النعرات الطائفية المقيتة.. وهذه بعض مظاهر اليأس من إصلاح الحال على الأرض، ومحاولة الهروب إلى الله هرولةً.
وقد قصدت فى عنوان المقالة إلى استعمال كلمة (الهروب) لا كلمة «الفرار» حتى لا يتقاطع كلامى مع المفهوم القرآنى الوارد فى قوله تعالى (ففروا إلى الله) وكيلا تلتبس الحالة المصرية الراهنة مع مفهوم التقرب إلى الله.. وللتوضيح، فإن «التقرب» إلى الله هو مفهوم إنسانى نبيل، يفترض أن الإنسان يعرف مكانه (دنياه) ومنه يتقرب، أى يسعى للقربى، ومفهوم «الفرار» الوارد فى سورة الذاريات يرتبط بالسياق العام للآيات التى تحدثت عن الطوفان (وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوماً فاسقين.. ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين). أما مفهوم الهروب إلى الله، هرولة، فهو مرادف لحالة الانزياح الجماعى الأهوج إلى الخنادق العقائدية العاصمة للجمهور من تردى الواقع، أملاً فى اللحاق بالسماء والإمساك بالمكاسب الأخروية، مادامت الدنيا قد أفلتت من أيديهم، حسبما يظنون.
ولاشك فى أن الأحداث التى تلاحقت عقب تنحى مبارك، مهما كان من تفسيرنا لها، كانت الدافع الرئيسى وراء فوران الهروب الجماعى (الاجتماعى لا الدينى) إلى الله، والهرولة إليه هرباً من وطأة اضطراب الواقع. وقد أسهم المجلس العسكرى، غالباً عن غير قصد، فى تأجيج هذه الحالة والتشجيع عليها بعدة تصرفات كان الهدف المباشر لها هو إطفاء الحرائق التى أشعلها (الفلول) أو تؤججها خلفيات الخلاف بين المسلمين والأقباط، أو حتى تلك التى حدثت من دون تدبير ثم تفاقمت بسرعة.. فكان أسلوب العلاج خاطئاً من جهة المجلس وحكومة شرف، لأنهم سارعوا إلى الحل الأسهل، مثلما يفعل العسكريون دوماً (للتوضيح، هذا ليس نقضاً أو نقداً للحكومة والمجلس، بقدر ما هو تنبيه إلى أمر أراه خطيراً على مصلحة البلاد) فمن الأمثلة على تلك الأساليب استعانة المجلس برجال الدين ذوى الشعبية العريضة، لإنهاء الفتن ذات الطابع العقائدى، فإذا ثار المسلمون فى منطقة عشوائية من أجل الأخت «فلانة» التى أسلمت فحبسها القساوسة، على زعمهم، فسالت الدماء واحترقت كنائس يذكر فيها اسم الله- لم يرسل المجلس بقوات الصاعقة والشرطة العسكرية لوأد الفتنة فى مهدها، وإنما بعث بالفضلاء من أمثال الشيخ السلفى الشهير «محمد حسان»، وبالمناسبة فإننى أحب هذا الرجل، وإن كنت أختلف بالطبع فى منهجه، لأنه شديد التواضع وافر التلقائية، ولا يخطئ فى النحو حين يتكلم، وعندما هاجمته بعنف بسبب فتواه فى طمس التماثيل الفرعونية تفضل مشكوراً بالتراجع عنها وأرجع الأمر إلى أن ما نقل عنه غير صحيح، ولا بأس فى ذلك، فما مرادنا جميعاً فى نهاية الأمر إلا مصلحة البلاد والعباد. المهم، أن استعمال الشيخ الجليل فى مثل هذه المهام أدى إلى استعلان السمة الدينية وإعلائها على المشهد العام.. ومن الجهة المقابلة، سعت الحكومة والمجلس بعد كارثة ماسبيرو إلى المسارعة لتقديم واجب العزاء للبابا شنودة فى البطرخانة (الكاتدرائية)، وكان سعيهم بطبيعة الحال مشكوراً، لكن الأولى منه كان تقديم العزاء للأمهات الثكالى، ولأهل الضحايا فى بيوتهم. فهذا هو «الواجب» الذى نعرفه، ولا بأس بعده من مشاطرة البابا أحزانه على أبنائه المقتولين فى الشوارع هدراً بغير حق ولا هدى ولا سبب مفهوم. أما توجيه المؤشر العام نحو ممثلى (الله) فى الأرض فهو يؤدى بالضرورة إلى توجيه الأنظار نحو السماء لا الأرض، إلى بوابات الآخرة لا دروب الدنيا.
ما خطورة ذلك؟
خطورته متعددة الأوجه، منها أنه يفت فى عضد الانتماء القومى (أى يضعفه)، لأن المسلم سوف يصير مسلماً قبل كونه مصرياً، وكذلك الحال للمسيحى، فيصير الانتماء الدينى هو الأساس، وهى التربة السبخة التى زرعها النظام السابق فى عموم البلاد، فانقطع الزرع (لأن النبات لا يصح فى الأرض السبخة).
ومن مخاطر هذا النهج المشجع على الهروب من الوطن إلى الله (مع أن حب الوطن من الإيمان) أنه يفرض على رجال الدين دوراً سياسياً ليسوا مؤهلين له، وهو الأمر الذى توالت تجلياته مؤخراً من شيخ الأزهر، الذى هو بالمناسبة شخص عزيز علىَّ، فقد كنا منذ سنوات بعيدة نهتم بتراث ابن عربى (وهو موضوع رسالة د. أحمد الطيب لنيل درجة الدكتوراه) وتجمعنا دائرة التخصص فى الفلسفة الإسلامية، ومن ثم فلا أجد فى نفسى تجاهه إلا المحبة، غير أن ما يفعله من إصدار «وثيقة الأزهر للإصلاح» وما يصرح به من أنه يتصدى للمد الشيعى فى مصر (مع أن الأزهر ذاته منجز شيعى فى أصله)، وما يوالى نشره من بيانات صحفية تعلق على الأحداث.. فإن ذلك كله يتعدى الدور المنوط به كإمام، وشيخ للأزهر، ويتجاوز ما يجب عليه من الارتقاء بجامعة الأزهر التى تدهورت أحوالها مؤخراً، وغير ذلك من المهام (الدينية) لا السياسية، ومجدداً أؤكد أننى لا أبغى من وراء هذا الكلام نقد شيخ الأزهر، أو نقض توجهاته الأخيرة، لكننى أذكره فحسب بالأهم قبل المهم، مستشهداً فى ذلك بما يعرفه من كلام الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى: لا راحة لك مع الخلق، فارجع إلى الحق، فهو أولى بك.
إن انهماك رجال الدين فى الحركة السياسية يؤجج بطبيعة الحال عمليات الهروب (الهجاج) من الوطن إلى الدين، من الأرض إلى السماء، من الدنيا إلى الآخرة.. وهو أمر قد يكون محموداً فى ظروف أخرى تختلف عن الحالة التى تمر بها مصر، أعنى حالة إجهاض الثورة وإبقاء الفورة، فليعكف كل إنسان فى هذا البلد على دوره الأصلى، حتى تمر بلادنا من المأزق الحالى الذى يزداد كل يوم قتامة، فيتزايد فى النفوس الحماس الدينى الرامى إلى اللحاق بملكوت السماء، مادام العالم الدنيوى قد انفلت من أيديهم بسبب الانفلات الأمنى، والضبابية، وتشابك السبل، وغموض المستقبل.
وبعد، أريد أن أختم هذه المقالة للقارئ بإشارة أسوقها على جهة الإيجاز، مفادها (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) وليس العكس.. فتدبر.


ما بين إخماد الروح الثورية فى مصر، وتأجيج هيجان الفوران بها. أو بعبارة أخرى، ما بين إجهاض الثورة العامة بكل ما فيها من نُبلٍ وشَجَنٍ وأملٍ عريض فى المستقبل، وإبقاء الفورة التفصيلية المعبر عنها حيناً بالمظاهرات الفئوية المطالبة بزيادة المرتبات وبحقوق الأقليات وبالفتك بالفلول «وغير ذلك من الأهداف الفرعية والمنافع الشخصية».. ما بين هذا وذاك، انتشر التشتيت فى ربوع البلاد وعقول العباد، فغابت عن الوعى المصرى وقائع مهمة تجرى على الساحة من دون أن يلتفت أحدٌ إليها، أو يوليها الاهتمام اللائق بخطورتها. ومن تلك الوقائع ما يمس المسألة الإسرائيلية على النحو الآتى بيانه:
نشرت وسائل الإعلام الأسبوع الماضى أخباراً مؤكَّدة «لم تُكذَّب» مفادها أن أبناء العم فى إسرائيل وأبناء الخالة فى قطر، اتفقوا بتوفيق من الله أو يهوه، على قيام قطر «الشقيقة» بتصدير الغاز المسال إلى إسرائيل، عوضاً عن الغاز الذى كان ينساب بيُسر، وبأرخص الأسعار، من مصر.. فلما غضب المصريون، بعد الثورة، من ذلك الإجحاف الفاحش والاتفاق المخجل الناهب لثروات البلاد لصالح أعداء البلاد «فى الداخل والخارج» وتوالت التفجيرات فى خط الأنابيب «الشريان» الممتد بسلامٍ من هنا إلى هناك. بدأت إسرائيل فى البحث عن مصدر آخر للطاقة، كيلا تتوقف فيها «عجلة الإنتاج» وحتى لا ينعدم «الدفء» فى بيوتهم، آملين بالطبع فى عودة «الوسية» المصرية إلى سابق عهدها، فتتدفق نحوهم الخيراتُ فى مجاريها السابقة المباركية والحسين سالمية.
وبحسب ما أُذيع ونُشر «ولم يُكذَّب» فإن إسرائيل تقوم حالياً بإنشاء رصيف بحرى خاص، لاستقبال الغاز القطرى المسال الذى سيصل إليها بالناقلات العملاقة القادمة من حوافِّ الخليج، مروراً بقناة السويس، ابتداءً من العام بعد القادم «2013» وهو تاريخ قد يبدو للمصريين بعيداً، لأنهم صاروا يعيشون يوماً بيوم، ولكنه قريبٌ جداً من زاوية الاتفاقيات الدولية.
وقبل أن يصيح أحد محترفى «الفورة» المصرية الحالية، ويزعق بكلامٍ مجانىٍّ من نوع: هذا الأمرُ لا يعنينا اليوم فى شىء، فالمهم بالنسبة إلينا، ألا تُهدر ثروات بلادنا وتُبذل بأبخس الأثمان لأولئك الأعداء، والأخت الشقيقة «قطر» حُرَّة فيما تفعله بثرواتها النفطية وتوجُّهاتها الدولية.. إلخ، إلخ. نقول: قبل ذلك، علينا أن نفهم أموراً لن يجدى تجاهلها، منها أن هناك اتفاقيات موقَّعة بالفعل بين مصر وإسرائيل، ولا بد من الالتزام بها «لأن الحكومات المتعاقبة متضامنة» ما دامت التعاقدات صحيحة من الناحية القانونية.. ومنها أن توقُّف ضخِّ الغاز إلى إسرائيل، لم يجعله متوفراً بمصر، بل صار وصوله إلى بعض النواحى المصرية منعدماً.. ومنها أن إسرائيل عقب الثورة المصرية عرضت علينا استعدادها لإعادة النظر فى أسعار حصولها على الغاز المصرى، فلم نهتم.. ومنها أن حكومة قطر التى تشجِّع الثورات العربية، تشجِّع أيضاً صادراتها لإسرائيل. ولكن الأهم من هذه الأمور المهمة، هو ضرورة أن ننظر إلى المسألة الإسرائيلية فى عمومها، لأنها بالغة الخطورة، فلا تشغلنا الفورات الحالية التى أعقبت الثورة، أو تمَّ تحويل الثورة إليها، عن الاهتمام بالمسألة الإسرائيلية والحالة الحدودية لبلادنا.
                                       ■ ■ ■
منذ عدة عقود، درجنا على النظر إلى «إسرائيل» بشكل غير متوازن، أو بالأحرى بشكلٍ عشوائىٍّ متطرِّف ما بين التهوين والتهويل. فمن ناحية، كنا دوماً نستهين بالمسألة الإسرائيلية، ونتوعد علانيةً بإلقاء إسرائيل ومَنْ وراء إسرائيل فى البحر «ثم ننهزم أمامها فى الحروب العسكرية» ومن ناحية مقابلة، كنا كثيراً ما نبالغ فى تقدير حجم هذا العدو «الاستراتيجى» عبر توهمات من مثل: الخطر اليهودى على الإنسانية، الماسونية، بروتوكولات حكماء صهيون، واحة الديمقراطية فى الشرق الأوسط.. إلى آخر هذه الخرافات.
وحتى على مستوى التناول العلمى والثقافى للمسألة الإسرائيلية، ظل هذا التهوين والتهويل مهيمناً على نظرتنا. وهو الأمر الذى ظهر واضحاً فى «الموسوعة اليهودية» التى وضعها الراحل الجليل د. عبد الوهاب المسيرى، وشاركتُ فيها، حيث تم تلخيص المسألة اليهودية «الإسرائيلية» فى ثلاث نقاطٍ كان أستاذنا الراحل يراها أدوات تفسيرٍ ومفاتيح فهمٍ لما يسميه «الظاهرة اليهودية» مؤكِّداً أن: الحلولية، والعلمانية الشاملة، والجماعة الوظيفية.. هى المداخل الثلاثة التى يمكن من خلالها إدراك طبيعة اليهود، ودولة إسرائيل، وهو الأمر الذى كنتُ أخالفه فيه «مع أنه كان منى بمنـزلة الأستاذ» لأن هذه الأدوات التفسيرية شديدة العمومية، وتنطبق على غير اليهود مثلما تنطبق عليهم، وحتى فى تراث الإسلام والعروبة، سوف نجد هذه «الحلولية، العلمانية الشاملة، الجماعة الوظيفية». ومن ثمَّ، فالمسألة اليهودية والإسرائيلية، أكثر تعقيداً وعمقاً «وخطورةً» من هذا التلخيص التفسيرى الذى كان يعتقده، رحمه الله، وقد ناقشتُه فى ذلك عدة مرات فى ندوات عامة، وفى مقالات كتبتها قبل أعوام.
                                       ■ ■ ■
إن المسألة الإسرائيلية، واليهودية، أعمقُ جذوراً وأكثرُ ارتباطاً بتراثنا وواقعنا ومستقبلنا، مما نظن. ولن يجدى نفعاً أن نهوِّن من أمرها لنرتاح نفسياً، أو نهوِّلها لنبرِّر فشلنا فى مواجهة اليهود. فهم على مستوى الديانة يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالديانتين الكبيرتين فى بلاد العرب «الإسلام، والمسيحية» وإن كان اليهود لا يعترفون بأى ديانةٍ منهما، بينما تصرُّ الديانتان على الالتحاق بالموروث اليهودى، على النحو الذى عرضته تفصيلاً فى كتابى «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى»، وعلى مستوى التاريخ والتطور الفكرى، حدث تأثير طويل وتفاعل عميق بين التراثيات اليهودية والمسيحية والإسلامية، بحيث يصعب فهم كل تراثٍ منها، مستقلاً عن غيره. وعلى مستوى الواقع المعاصر، لا يمكن تجاهل الحضور الإسرائيلى فى المنطقة، وفى العالم، وإلا فنحن فى النهاية خاسرون لأن الذى يتجاهل عدوه أو يقلل من شأنه، فسوف ينهزم أمامه لا محالة.
لن أخوض فى تفاصيل نظرية، مطوَّلة، كى لا أرهق القراء الذين يشتكون دوماً من صعوبة طرحى للموضوعات «وهم بالقطع معذورون فى ذلك، لاعتيادهم على الكتابة السهلة التى تملأ جرائدنا» مكتفياً فيما يلى برصد تجليات المسألة الإسرائيلية على الواقع المصرى الذى استهل العام الحالى بثورةٍ حقَّة، ما لبثت أن انقلبت مؤخراً إلى فورة بائسة، تهدر الأهم لصالح الأكثر تفاهة، وتتخلى عن السلوك الثورى الرشيد من أجل المتاع العاجل القليل.
                                       ■ ■ ■
أصيبت إسرائيل بصدمةٍ بالغةٍ عندما نجحت الثورة المصرية فى الإطاحة بمبارك ومن حوله، وحولتهم من فراعين إلى مُتهمين يراهم الناس خلف قضبان الحبس، وفى قبضة المحاكمات. ولم تكن إسرائيل يوماً مرعوبةً من مصر على هذا النحو، على الرغم من وقوع حروب عدة، وهو ما يدل على أن القوة الحقة لمصر من وجهة نظر إسرائيل، لا تتمثل فى القدرة العسكرية التى طالما تعاملت معها إسرائيل على المستوى الميدانى «وانتصرت»، وعلى المستوى الدبلوماسى «وارتاحت»، وعلى مستوى التعامل مع نظام مبارك «وأكلت الشهد المصفَّى».. لقد ظهر لهم بعد الثورة، أن قوة مصر الحقة تكمن فى حركة الجموع الهادرة التى استطاعت أن تحقق ما يفوق أحلامها. ولو كان أحدهم قد قال لنا فى مثل هذه الأيام من العام الماضى، إن المصريين سوف يتَّحدون معاً فيسقطون فكرة توريث الحكم التى نجحت فى سوريا، ويضعون رئيس الجمهورية فى القفص، ويرهبون عدو الله وعدوهم وآخرين من دونهم.. إلخ، لكان الجميع قد وصفوا هذا القائل بالجنون، واعتبروا كلامه يفوق الأحلام ولا يمكن أن يتحقَّق يوماً.
لكن الثورة المصرية حققت ما كانت تصبو إليه، فصدمت إسرائيل، ثم بدأت تقود مبادرات مبهرة بعد أسابيع قليلة من الثورة، فنجحت على الساحة الدولية فى إعلاء صورة المصريين بعد طول مهانة، وفى توحيد القوى الفلسطينية «فتح، حماس» بعد طول تقاتل بين الأشقاء، وفى الذهاب إلى منابع النيل بعد طول إهمالٍ يهدد البلاد بالظمأ والجفاف.. ثم ماذا؟ وماذا بعد؟ وبعدين مع المصريين؟.. سألت إسرائيل نفسها هذه الأسئلة، وسارعت إلى العمل لتلافى الحالة المصرية «الثورية» التى أخرجت فى الأسابيع الأولى للثورة أفضل ما فى المصريين. ولم تجد إسرائيل آنذاك طريقاً إلا البدء بإظهار الوداعة، وبدت بريئةً كالحمل الرضيع، الوديع، فتباكت يومين على مبارك «الذى كان محباً للسلام، وللمال» ثم استفاقت وأظهرت احترامها لثورة المصريين وحقهم فى الديمقراطية.. بل وصلت الوداعة الإسرائيلية الجديدة برئيس الوزراء الإسرائيلى «نتنياهو» إلى الظهور بوجهٍ برىءٍ فى برنامج تليفزيونى عربى، قال فيه للمذيع المصرى بالحرف الواحد «نحن نريد السلام، وأنا أكبر منك سناً، وقد رأيتُ من فظائع الحرب ما لم تشهده أنت، فقد أطلق المصريون الرصاص علىَّ وأنا أسبح فى قناة السويس قبل حرب أكتوبر، وكدت أموت، ولأننى رأيت الموت بعينى فإننى أريد للأجيال الجديدة الحياة والسلام».. يا سلام.
                                       ■ ■ ■
وبعدما أخرجت الثورة المصرية من شعبنا أفضل ما فيه، أفرزت منه «الفورة» الحالية أسوأ ما فيه.. قطع الطرق لانقطاع البنـزين، اللعب السياسى بالدين، سرقة السيارات، السعى للقضاء على الفلول والإفطار بالفول والتحلية بأم الخلول، شتيمة المجلس العسكرى لإظهار البطولة الثورية، التوك التوك يمرح فى شوارع المدن، رفع الشعار العجيب «عاوز حقى يا بلد» والشعار «إسلامية، إسلامية» كأن مصر دولة بوذية أو مجوسية.. ثم عمَّت حالة الفورة مع ملاعبة المجلس للجالسين على الأرصفة للمطالبة بالقضاء الفورى على الفساد، والراغبين فى زيادة رواتبهم الآن، والمتصدرين لشاشات التليفزيون باعتبارهم آباء الثورة والناطقين الأزليين باسمها، والحواة القانونيين والسياسيين الذين لا يسوسون.. وغير ذلك كثيرٌ من مظاهر الفورة التى انتهت إليها الثورة، أو توقفت عندها، لأن الوقود الثورى «الوعى العام» انعدم، فخرج «العادم» من مركبة الثورة وعلا من «الموتور» الزعيق، وكثر الطحن والتطاحن وقلَّ الطحين والدقيق.
وإسرائيل بجوارنا، تراقب من كَثَب، وتتخذ ما تراه ملائماً من تدابير تناسبها. كأن تجرِّب ما اعتادت عليه، ولم تعتذر عنه، من قتل بعض الجنود المصريين على الحدود بطريق الخطأ، أو بالالتفاف حول مصر بالهرولة نحو أثيوبيا والصومال وجنوب السودان، وغير ذلك من المواضع التى لا يعلمها إلا الله، أو بمحاولة التفرقة بين الفلسطينيين، من جديد، حتى ينشغلوا ببعضهم البعض فلا يشغلونهم عن الشأن المصرى الذى يتقلَّب كل يومٍ مرات، ولا يعرف أحد إلى أين سينتهى به المطاف.. وكان من أعجب هذه التدابير، ما جرى من مساومى الفلسطينيين الطامحين إلى الاعتراف عالمياً بدولتهم، بأن بعض الدول الأوروبية سوف تنظر بعين العطف إلى رغبة أهل فلسطين فى إقامة وطن قوى لهم، ولكن فى المقابل، يجب عليهم أولاً «الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل» كأنَّ يهودية إسرائيل بحاجةٍ إلى اعتراف، وهى أطلقت على نفسها منذ يومها الأول الاسم التوراتى للنبى يعقوب الذى صارع الله، على زعمهم، واستطاع أن ينتصر عليه ويطرحه أرضاً ويكسر حُقَّ فخذه «سبحانه» وينتزع منه الاعتراف بالنبوة والاسم الجديد «إسرائيل» الذى يعنى حرفياً: الذى غالب الله وغلبه!
وبطبيعة الحال، لم ننشغل فى مصر بمثل هذا المطلب التفاوضى، ولم ننتبه إلى خطورة الإقرار بيهودية الدولة «اليهودية» وما يؤدى إليه ذلك من تأكيد «إسلامية» مصر و«مارونية» أعالى لبنان و«شيعية» سهل البقاع و«علوية» شمال سوريا و«سنية» قلبها و«قبطية» بعض النواحى المصرية و«زيدية» بعض النواحى اليمنية.. وتصير المنطقة بعد حينٍ، ملعباً للصراعات المذهبية والدينية التى تحدِّد ملامح كل بلدٍ أو منطقة، فتكون السيادة فى نهاية المطاف للأكثر تنظيماً وتركيزاً وجاهزية للحرب إن لزم. لم نهتم بذلك، فى مصر، لأننا غافلون عما حولنا، ومشغولون بتجلِّيات الفورة التى أعقبت الثورة، ومنهمكون فى خلافات عجيبة من نوع «وثيقة السلمى» لتأمين قادة الجيش من المحاسبة، وتقاعس مصر عن تقديم المستندات لسويسرا بغية استرجاع المنهوب، والترقب لما سوف تسفر عنه الانتخابات القادمة «إذا جرت أصلاً» من تمامٍ على خير أو انفلات الأمور تماماً.. وغير ذلك من الشواغل المطروحة حالياً بقوة، مع أن البتَّ فيها لا يستلزم شيئاً إلا الحزم وتصحيح النية. لكن النوايا، فيما يبدو لى، لم تصحّ بعد فتكون نبراساً. والحزم، على الرغم من تمديد العمل بقانون الطوارئ، لم يتوفر فى أنحاء البلاد بالقدر الكافى لتسيير الأمور نحو أهدافٍ محدودة.
وفى غمرة هذه الحالة من «الفوران» التافه الذى انتهى إليه «الثوران» الذى فَقَدَ البوصلة، يتسع المجال أمام إسرائيل وتخلو لها الملاعب كلها. وهى خبيرةٌ فى اللعب. ثم تنقضى الأيامُ وتمرُّ الشهور، لنجلس جميعاً على حواف الحضارة نبكى اللبن المسكوب، ونتحسر على الأحوال.. كعادتنا دائماً.
                                       ■ ■ ■
والمسألة الإسرائيلية، على أهميتها، هى جزءٌ واحدٌ من أجزاء «الحالة الحدودية» التى تحيط مصر اليوم من النواحى كلها، عدا ناحية البحر، وتؤثِّر فيها بشكل عميق سواء على المستوى الآنى الحاضر، أو المستقبلى الآتى مع قادم الأيام. وهو الأمر الذى سنتوقف عنده بالتفصيل فى المقالة القادمة، على أمل أن تستفيق بلادنا من البلادة التى تغشى العقول وتعوِّق مصر عن الوصول إلى الآفاق الثورية التى نتمناها، ويتمناها لنا المحبون لمصر، ويخشاها العدو الذى نعرفه وآخرون من دونه «لا تعلمونهم والله يعلمهم».
فإلى لقاء الأربعاء القادم، ما لم يسبق السيف العزل

التقلُّبُ فى الترقُّب.. مفهوم «البلطجة»
بصرف النظر عن أثر (التطبيقات العملية) لإدارة المجلس العسكرى للبلاد، وهى التطبيقات التى تتفاوت بشأنها وجهات النظر ما بين قائلٍ بأن أعضاء المجلس، ورئيسه، من كبار رجال الحرب والقتال ولا يعيبهم أنهم غير خبراء فى التعامل مع المدنيين.. وقائلٍ يتهمهم علانيةً بسوء النية وفساد الطوية، مستدلاً على ذلك بتدليل المجلس للمخلوع والمخلوعين معه، والحنان المفرط معهم، وفى الوقت ذاته يتم تعامل المجلس مع جمهور الناس على النهج (الاحتقارى) الذى أطاح بالمخلوع والذين كانوا يلوذون به ويمهِّدون له رغباته المنحرفة فى توريث ابنه «جمال» وفى النهب المنظم لثروات البلاد، وفى إخراج مصر من الساحة الدولية كطرف مؤثر، وفى خاتمة المطاف: قتل المتظاهرين الأحرار الذين أجمع المصريون على أنهم «الورد اللى فتَّح فى جناين مصر» .. ورُبَّ قائلٍ ثالثٍ يرى أن الارتباك العام فى مصر يعود إلى خشية أعضاء المجلس من الاستقرار السريع للأمور العامة، لأن ذلك سوف يسهم فى تفتيح الأفواه وتوجيه العيون نحو مشاركة أعضاء المجلس ورئيسه فى «البلايا» التى كانت تجرى قبل قيام ثورة يناير.
وبصرف النظر عن أثر (الفعل الجماعى) للمصريين من بعد الثورة، وهو الفعل الذى لا يريد أن ينضبط، بل يتفاوت دوماً ما بين حركاتٍ شعبيةٍ حُرةٍ، بريئة، ترجو لمصر الأمن والترقى، وحركاتٍ من تلك المسماة بالعامية «نُصّ كُم» تقوم بها القوى السياسية بغير إخلاصٍ أو نية إصلاح، رغبةً فى الحصول على بعض ثمار الثورة (= قطعة من التورتة) وهو ما أدى إلى تفاوت فى الآراء ما بين قائلٍ بأن المصريين لا يستحقون الديمقراطية لأن الجهل يسود فيهم ويعيث بعقولهم فساداً.. وقائلٍ يؤكد أن ثورة يناير أخرجت من المصريين أفضل ما فيهم، لمدة أسبوعين فقط، ثم راحت الثورة من بعد ذلك تُخرج أسوأ ما فى المصريين من ميلٍ فطرىٍّ للفوضى، ومن عدم الوعى بحرج اللحظة التاريخية التى يمرون بها، ومن ميراث طبيعى للعقود الثلاثة (البائسة) لدولة مبارك، والعقود الستة (السيئة) لدولة الضباط الأحرار، جداً، التى كانت مقدمةً لدولة المخلوع وتمهيداً لها.. وقائلٍ ثالثٍ يرى أن الفعل المصرى العام يشوبه التشويش بسبب ما أسميه «تبديد التوحيد بنشر التشتيت» وهو الأمر الذى يلعب فيه الإعلام دوراً ملموساً، وكذلك المرتبطون بالنظام السابق (الساقط) بالإضافة إلى المؤامرات الخارجية التى لا ينكرها إلا جاهل.
وبصرف النظر عن أثر (الانتخابات) التى جرت فى اليومين الماضيين، ولا أعرف الآن ما الذى يمكن أن تنتهى إليه لأن هذه المقالة مكتوبة يوم الأحد الماضى، قبل أقل من يوم واحد على بدء الانتخابات. وقد سبقتها الأجواء التى نعرفها، ونعانى من اضطرابها وتفاوت الآراء فيها ما بين مرحِّبٍ بها، ومتخوِّف منها، ورافضٍ لها، وداعٍ إلى تأجيلها... إلخ.
بصرف النظر عما سبق كله، ودون الخوض فى مناقشة (الأقوال) السابقة التى لا تكاد تنتهى، فإن النتيجة النهائية للأمر، من دون أى شك، هى الحالة المصرية التى وصفتها بعنوان هذه السباعية «إجهاض الثورة وإبقاء الفورة» بمعنى تغييب المفهوم العميق للثورة بكل ما تشتمل عليه من مشاعر نبيلة تنطلق من الحب العميق لمصر والمصريين، لصالح المفهوم السطحى للمصالح العاجلة والمكاسب المرجوة. وبمعنى فقدان البوصلة التى تقوم بتوجيه الفعل الجماعى، والانشغال بالوقائع الجزئية التى تطفر فجأة كل يوم وتؤدى إلى تشتيت الإرادة العامة.
ومنذ أيام قليلة، وتحديداً من مساء يوم السبت قبل الماضى، عادت الثورة المصرية واستعادت عافيتها فجأةً، فاختفت فجأةً: أحداثُ الفتنة الطائفية وإحراق المساجد، اللعبُ السياسى بالأوراق الدينية، تصدُّرُ ذوى اللحى الكثيفة للمشهد السياسى، الهيجانُ الإعلامى لتلميع الفريق المسمَّى «المرشحون المحتملون للرئاسة» وأنصارهم، القلاقلُ المسماة «المطالب الفئوية».. وغير ذلك من تجليات (الفورة) التى صارت بديلاً ممسوخاً لحالة (الثورة).
والآن، أما آن لنا التفكير برويَّة وتَدَبُّرٍ منطقى؟ أو بعبارةٍ أوضح: ألم يحن الوقتُ لإعمال العقل فى مفردات التشويش، وفى العناصر المؤدية إلى إجهاض الثورة لصالح إبقاء الفورة؟.. سوف أتوقف فيما يلى عند نقطتين، فقط، ترتبطان ارتباطاً وثيقاً بما نُعاينه اليوم فى مصر، ونُعانى منه. وأولى الاثنتين ما جعلته النصف الأول من عنوان مقالة اليوم.
■ ■ ■
التقلُّبُ فى الترقُّب، حالةٌ مصرية ابتدأت مع ابتداء «ثورة يناير» وتطورت تدريجياً، وهى لا تزال ممتدة فى بلادنا إلى اليوم (وأظنها ستمتد فى مقبل الأيام) ومقصودى بها هو الآتى:
مع اندلاع الثورة التى أدت إلى «التنحِّى» من بعد دوام «التناحة»، رأى كثيرٌ من الناس فى مصر أن الفرج صار قريباً، وهيَّجت وسائل الإعلام حالة الاستبشار الجماعى بالمستقبل، بما سارعت إليه من إعلان الأرصدة المالية الهائلة لمبارك وحاشيته، فى بنوك أوروبا. ومن ثم، توقع الناسُ الذين ظلمتهم الأيام بأن جعلتهم يعيشون البؤس المصرى فى زمن مبارك (غير المبارك) اقتراب المطلب الذى رفعته ثورة يناير «العدالة الاجتماعية» خاصةً أن مطالب هؤلاء المصريين البؤساء متواضعة، وكلها من نوع: الحصول على وظيفة، الحصول على سكن مناسب، زيادة الرواتب، المعاملة معهم باحترام لآدميتهم. وكلها مطالب غير مستحيلة، وما دامت الأموال التى نُهبت من البلاد سوف تعود، فقد صار الصبحُ قريباً.. وترقَّب الناسُ.
ومن دون سببٍ واضح، اندلعت أحداث الفتنة الطائفية من جديد، من أجل خاطر «الأخت كاميليا» وبقية أخواتها، كأن المسلمين ينتظرونهن بفارغ الصبر لزيادة العدد وإعزاز الدين! وبسبب الأحداث الدامية مات كثيرون، لغير وجه الله، وعوقب كثيرون وعانى المصريون من حالة فزعٍ عام، وخوفٍ .. وترقَّبَ الناسُ.
غير أن المصريين وجدوا فى (الجيش) الذى يمثِّله المجلس العسكرى، حصن أمان. فاطمأنوا إلى ذلك، إلى حين، وراح بعض الكتبة «وليس الكُتَّاب» يروِّجون لفكرة بقاء العسكر فى الحكم، لأنهم الأقدر على الأخذ بزمام الأمور، ولأن الجيش المصرى جيش وطنى (كأن أحداً يظن أنهم مرتزقة!) وأن المشير يسير بخطا الواثقين، ولا بأس من اختياره رئيساً لمصر بدلاً من هؤلاء «المحتملين» غير المحتملين.. وترقَّب الناسُ.
وطفرت فجأة أحداث ماسبيرو، التى لا أعرف فى مصر أحداً يستطيع أن يجزم بحقيقة ما جرى خلالها، أو يقتنع بأن الأهوال التى جرت كانت مصادفةً، أو وقعت من دون تدبير. وليلتها تعالت الدعوات الإعلامية (الحكومية) للناس، بضرورة النـزول إلى الشوارع لحماية الجيش! ونقلت الشاشات صوراً للاعتداء على الجنود، فكانت النتيجة الضرورية لذلك هى افتقاد الشعور العام بالأمن العام، مع إدراك أن قوات الجيش لن تقدر على ضبط حركة الناس فى المدن. وهو ما كنتُ قد أشرت إليه قبل شهور، فى مقالة نُشرت هنا بعنوان «حيرة الدبَّابة عند طنين الذبابة» وفى مقالات أخرى صرَّحت فيها بوضوح بأن حياة المدن تفسد الروح العسكرية. وبدلاً من استبشار المصريين بالحصول على «الحماية» تحت جناح العسكر، راحوا يتشككون فى نوايا «المجلس» وفى ضمير «الجالسين» .. وترقَّب الناسُ.
ومع امتلاء ميدان التحرير، ترقَّب الناس. ومع الإعلان عن «أحفاد مبارك» بالعباسية بعد «أبناء مبارك» بروكسى، ترقَّب الناس. ومع فوران المطالب الفئوية فى عموم البلاد عند أول تباشير الاستقرار العام، ترقَّب الناس. ومع اقتراب موعد الانتخابات فى غمرة الغياب الأمنى، ترقَّب الناس.. وخطورةُ التقلُّب فى الترقُّب، تأتى من استحالة وضع خطط عمل حقيقية للخروج بمصر من اللحظة الحرجة التى تعيشها، وتأتى من عدم القدرة (بسبب التقلُّب الدائم) على تحقيق منجزات حقيقية تدفع بالبلاد نحو المستقبل، وتأتى من شيوع الضبابية وانعدام القدرة على الرؤية الواضحة. بعبارة أخرى، ما دامت أفئدة المصريين تتقلَّب فى كل لحظة ما بين المتناقض من الأمور: ما بين الخوف والرجاء، ما بين التوجس المفرط والاستبشار المفرط، فإن حالة الذهول الذهنى سوف تظل قائمة.. وإذا ذُهلت الأذهانُ، والعقول، فلا مجال للعمل. وإذا توقف العملُ، الخطط المستقبلية، فلا مجال للتقدم، وإذا قعدت البلاد عن السعى إلى التقدم، والسير نحوه بخطى ثابتة، فلا مجال إلا للتخلف.
ما الحل؟ كما ذكرتُ فى مقالتى السابقة، فإن الأمراض تعالج بأضدادها، حسبما قال الحكماء القدماء: «الضد للضد شفاء». ومعنى ذلك أن نكفَّ بقدر المستطاع عن (التقلُّب) فى (الترقُّب) ونستمسك بمسارٍ محدَّد نضعه على رأس الأولويات، فإذا تمَّ أمرٌ شرعنا فى الذى يليه. وقائمة هذه الأولويات، حسبما أرى، هى الآتى: إبعاد العسكر عن المشهد السياسى فى أقرب فرصة ممكنة، تأمين الحدود، الإزاحة الفوريةلمن بدا فسادهم، الإلغاء الفورى للموالد التليفزيونية، إطلاق المبادرات الفردية بأقصى طاقة لها (فالمقاول يبنى بيوتاً لسكان العشوائيات، والشرطى يحترم الناس فيحترمونه، تشجيع الشباب على رعاية أحيائهم السكنية ونظافتها... إلخ).
■ ■ ■
نأتى من بعد ذلك إلى النقطة الأخرى «مفهوم البلطجة» وهى تتصل اتصالاً وثيقاً بالنقطة الأولى، لأن ما يعتقده كثيرون من انتشار (البلطجة) يؤدى إلى ازدياد قلق (الترقب) الذى يؤدى بدوره إلى انتقال الحال المصرى العام من الثورة إلى الفورة، من العمل الجماعى إلى القلاقل الفرعية، من الكلى إلى الجزئى.. وبطبيعة الحال، فإن الصورة التليفزيونية المصرية خصوصاً والعربية عموماً، لم تدَّخر جهداً فى تقديم وهم «البلطجية» للمشاهدين على طبق من (فضة) على الشاشة (الفضية) التى لا يكف ضيوفها عن النعيق والزعيق طيلة الوقت، اللهم إلا فى وقت : الخروج إلى فاصلٍ إعلانى، ونعود!
وفى واقع الأمر، أرى أن «البلطجة» المزعومة فى مصر، هى محض وهم كبير شارك كثيرون فى صنعه، لأغراض متعدِّدة لن نخوض فيها الآن.. فدعونا، معاً، ننظر فى هذه اللفظة (بلطجى) ومعناها، لنعرف حقيقة هذا المفهوم الذى تم الترويج له، بكثافة لافتة، عقب قيام الثورة المصرية فى يناير الماضى:
من حيث الشكل، فإن كلمة «بلطجى» هى مفردة تركية الأصل، يستعملها العامة فى مصر على نحوٍ مخالف لمفهومها الأصلى. فالبلطجى من حيث اللغة التركية، هو حامل «البلطة» الذى يتولى تنفيذ حكم الإعدام، أو يخرج مع الجنود للقتال مستعملاً سلاحه ثقيل الوطأة. وعلى المعنى ذاته جاءت مفردات: عربجى (سائق العربة)، حملجى (الخارج مع حملة الأمن)، قلعجى (جندى القلعة)، ثورجى (محترف الهياج)، قهوجى (صانع القهوة)... إلخ. وبالطبع، فهؤلاء الموصوفون بالبلطجية لا يحملون فى أيديهم بالضرورة بلطة، أى أنهم من حيث ظاهر اللفظ ليسوا بلطجية.
أما من حيث المعنى وهو الأهم، فإن مفهوم «البلطجى» هو الشخص الذى يعتمد على قوته البدنية من أجل تحصيل المال بانتظام ممَّن يقومون بأعمالهم، ويحتاجون حمايته أو يدفعون عنهم أذاه بتقديم قدر من المال. وقد رأينا صوراً لهؤلاء «البلطجية» فى بعض أعمال الأستاذ نجيب محفوظ، خاصة فى (الحرافيش) والذين عاشوا فى مناطق شعبية قبل عقود من الزمان، لابد أنهم رأوا ظاهرة البلطجة عياناً، لأنها كانت منتشرة آنذاك.
والعجيب فى الأمر، أن «البلطجى» بمفهومه الكلاسيكى لابد أن يكون حريصاً على استقرار الأعمال، وإلا لن يحصل على المال ممن يقومون بأعمالهم! ولابد أن يحقق الحالة الأمنية فى الحارة أو الشارع أو المنطقة التى يقوم فيها بدور البلطجى، وإلا ساد الاضطراب واحتاج الناسُ إلى بلطجى آخر يقوم بما عجز عنه البلطجى الذى انتهت صلاحيته! ولابد أن يمتاز البلطجى ببعض المزايا الخلقية، على الرغم من اعتماده على قوته البدنية وقوة أتباعه، وإلا انتقل من خانة «البلطجى» إلى خانة «الإجرام».. والبون شاسع بين هذا وذاك.
فهل الذين يهددون أمن الناس فى مصر، اليوم، بلطجية بهذا المفهوم؟.. بالطبع لا، فما هم فى واقع الأمر إلا خليط يجمع بين الفارين من السجون والهاربين من تنفيذ الأحكام (وهؤلاء مجرمون) وبين سكان العشوائيات الذين صاروا مع فقدان الأمل يكرهون المجتمع العام الذى ظلمهم (وهؤلاء معذورون) وبين الذين أسرفوا فى تناول المخدرات القوية فأقعدهم ذلك عن العمل مع إلحاح الاحتياج للمخدرات الطبيعية والكيميائية (وهؤلاء مدمنون) وبين صغار الشباب اليافع فى المناطق المهملة تنموياً، مع أنهم يجوسون خلال الديار فى المناطق المرفهة (وهؤلاء مظلومون).. أما الزعم بأن هؤلاء جميعاً بلطجية، فهو زعم لا يتوافق مع طبيعة لفظ «البلطجى» ومعناه الأصلى.
الليلة الماضية، السبت الموافق للسادس والعشرين من الشهر الجارى، كنت بمنطقة «سموحة» التى صارت منذ قيام الموجة الثانية من الثورة المصرية، مستقراً للكاميرات التى تنقل إلى الناس ما يسميه الإعلام (أحداث البلطجة) وكان معى صديق يسكن هناك، فجاء من يخبره بأن البلطجية يتجمعون خلف (زهران مول) استعداداً للهجوم على مديرية الأمن والشقق والمحال الفاخرة بالمنطقة، لكن الشرطة وشباب ثورة يناير وسكان المنطقة يستعدون لصدِّهم. طلبت من صديقى المهندس عبدالله نصر، أن نقترب من المكان، فوافق على مضض. فرأيتُ العجب:
هؤلاء الموصوفون بالبلطجية محض مراهقين بائسين يحملون فى أيديهم العِصِىَّ والسكاكين، وقوَّادهم يحملون أسلحة خفيفة. وليس فى هؤلاء (البلطجية) بلطجى واحد بالمعنى الحقيقى، فما هم إلا جوعى وجهلة ومتشردون ويائسون، عيونهم زائغة وأبدانهم شديدة الجفاف وملابسهم رَثَّة.. هم باختصار، ضحايا عصر مبارك الذين قاموا أو قام القريبون منهم، بالإغارة على «كارفور» القريب منهم، فنهبوا فى يناير الماضى برعاية الشرطة المنحرفة والمنحرفين من رجال الحزب الوطنى، كل ما وجدوه من أجهزة وأطعمة ما كانوا يحلمون يوماً بتذوقها، حتى إنهم يومها نهبوا الألبان والأجبان الغالية والرخيصة، والخضروات، ولا شك فى أنها كانت بالنسبة لهم لحظة فرح وانتصار وشبع من بعد جوع. فلما وجدوا ما يدعوهم لتكرار الأمر، خرجوا معه يحلمون بتكرار الأمر! أما هؤلاء الذين يصدونهم، فهم «الشرطة» التى قيل لهم إنها انهارت، أو سكان الحى الذين قيل لهم إنهم «الحرامية الذين سرقوا البلد» و«أكلوها والعة» وإجمالاً هم الظالمون، أو شباب ثورة يناير الذين قيل لهم إنهم «شوية عيال خِرعة»... إلخ.
ولم تحدث مواجهات، فقد تجمع فى الظلام هؤلاء الموصوفون زوراً بالبلطجية (خلف محطة بنـزين سموحة) واجتمع أفراد الشرطة حول مديرية الأمن من دون أن يتقدموا، واجتمع سكان الحى وشباب الثورة حول ميدان فيكتور عمانويل.. وظل الحال، حيناً، ثم تبدَّدت الجموع!
■ ■ ■
وختاماً، إن وَهْم انتشار «البلطجية» لا بد لنا من إعادة النظر فيه من زاوية أخرى، غير تليفزيونية، ترى فى هؤلاء جانباً آخر.. لا يقلل من خطورة أمرهم، وإنما يمهِّد لتفكيك ظاهرتهم وتقليل ظهورهم، بدلاً من استعمالهم بخبث فى تعميق حالة التقلُّب فى الترقُّب، التى هى واحدة من أدوات «إجهاض الثورة وإبقاء الفورة».. فتدبَّروا.


عقب انحسار الموجة (الأولى) من الثورة المصرية، فور تحقيقها الأهداف (الأولية) لها، وهى: إيصال صوت الشارع إلى أذن الحاكم بعد طول صممٍ منه وصراخٍ منهم بغير مجيب، تبديد مشروع توريث الحكم «الجمهورى» للنجل غير النجيب، إنهاء هيمنة أسرة «مبارك» وتنحيته عن الكرسى الذى التصق به، القضاء على رؤوس الفساد ومقاضاتهم.. وهى الأمانى العامة التى طالما راودت خيال الناس فى مصر، وجعلتها ثورة يناير واقعاً ملموساً، ما كان أحدهم يتوقع تحقيقه فى بضعة أسابيع.
وعلى نحوٍ حادِّ الانعطاف، بالغ الدرامية، بدا المشهد المصرى العام منذ بداية العام، على صورةٍ أخرى غير تلك التى كانت معتادة قبل الثورة. وكان من ملامح المشهد المدهش الجديد، استعلان وظهور الجماعات الدينية الإسلامية، ذات التوجهات السياسية، كالإخوان المسلمين والسلفيين والجماعات المسماة بالإسلامية.. وبالمناسبة،
 فهذه التسميات كلها تحتاج إعادة نظر، فالأصل فى المسلمين جميعاً أنهم (إخوان)، فلماذا يختص بهذا الوصف فريق منهم؟ والسلفية سمةٌ عامة لفكرنا المعاصر، ولا يكاد معناها الاصطلاحى الجديد يقع على مفهوم محدَّد، فلماذا نسمِّى مَنْ أطلق لحيته واحتقر المرأة وكره السياحة بالسَّلفى؟ وقد يكون من المستساغ أن تكون فى «الغربة» جماعةٌ مغايرةٌ عقائدياً للمجتمع الذى تعيش فيه،
 فيصحُّ آنذاك تسميتها بما يميزها عن بقية الناس المحيطين بهم، فيقال مثلاً الجماعة البوذية فى المجتمع المسيحى، أو الجماعة الهندوسية فى المجتمع الإسلامى! لكنه من غير المفهوم أن تكون داخل المجتمع الإسلامى العام، جماعة تتميز عن بقية «المسلمين» باسم الجماعة الإسلامية،
 وإلا صار غيرهم خارج نطاق الإسلام.. المهم، أنه جرى فى غمرة انحسار الموجة الأولى من الثورة، بعد شهر مارس الماضى، التخطيط لإجهاض «الثورة» المصرية، بإحلال «الفورة» فى محلها، لتبديد الطاقة الهائلة الدافعة للتغيير، خشية امتداد الأثر الثورى المصرى الذى يهدِّد مصالح مصيرية (غير مصرية) داخلية وخارجية: داخلية من مثل الإمساك بخناق كبار العسكر ممن شاركوا فى حكم مبارك لعدة عقود، أو ملاحقة كبار المرتبطين بالنظام السابق الساقط، أو الثأر من رموز الشرطة التى صارت لها دولة غير مسبوقة فى تاريخ البلاد..
 وخارجية من مثل تعويق مصر عن القيام بدور إقليمى يعيد لها الريادة فى المنطقة، أو تفريق الجهود الثورية العربية حتى لا تسير على نهج الثورة المصرية فتطيح بمصالح دولية، يدافع عنها المستفيدون منها، أو تقزيم الدور الذى تلعبه أمريكا وإسرائيل فى هذا الجزء من العالم.. ومن هنا اجتمعت عدة قوى توافقت أغراضها على ضرورة تشتيت عمومية «الثورة» والحطّ بها إلى المستوى الجزئى المتمثل فى «الفورة» وفرعياتها، ليسهل بذلك التعامل مع الثورة المصرية والتقليل من آثارها إذا امتد بها المسار.
■ ■ ■
ولما استطال انتظار مصر «الثائرة» وامتد التشويش بالربوع والنواحى «الفائرة»، وجد الثوار أن عليهم معاودة العزف على الإيقاع الثورى، بإطلاق الموجة الثانية من الثورة المصرية، فاحتشدوا فى ميادين التحرير من جديد، فوجدوا من جديد قوات «الأمن المركزى» وقد استعادت بعضاً من قواها القديمة، تقف لهم بالمرصاد.. وفى الشارع المسمَّى «محمد محمود» فى قول، وفى قول آخر يسمَّى «عيون الحرية»، سالت على الأسفلت دماءٌ مصرية بريئة، وفُقئت عيونٌ كانت ترنو لمستقبل أفضل للبلاد. فعاد الحاكمون إلى نهجهم السابق،
 الرامى إلى إجهاض الثورة وإبقاء الفورة، بأن تم الإعلان الحاسم عن أن انتخابات مجلس الشعب سوف تجرى فى موعدها (بعد يومين) بينما دماءُ المقتولين لم تزل على الأسفلت طرية، وجثثُ القتلى (الشهداء) التى كانت قبل بضعة أيام ملقاة فوق أكوام القمامة، لم تزل فى المشرحة ولم تُدفن بعد.. وعبثاً، نادى بعض المخلصين بتأجيل «الانتخابات البرلمانية»، ولو لأسبوعين فقط.
وما كادت الانتخابات تبدأ، حتى أعلن المتحدث باسم (المجلس) أن البرلمان القادم لن يشكِّل الحكومة! وما كادت الانتخابات ينتهى يومها الثانى حتى صدحت الأبواق الإعلامية زاعقةً، بأن الإسلاميين قادمون للأخذ بزمام الحكم فى مصر! وما كادت الناس فى مصر تفرح بمرور يومىْ الانتخابات من دون «الانفلات الأمنى» الذى كان متوقعاً،
 حتى خرجت نتائج أولية (ظهر لاحقاً أنها غير دقيقة) تقول إن الإخوان والسلفيين اكتسحوا صناديق الانتخابات كلها.. وما كانت الانتخابات أصلاً، فيما أرى، إلا دورة جديدة من دورات «الفوران» الذى سيمتد بنا لفترة، تثور خلالها المخاوف وتهيج الظنون وتكثر الطعون، فتبقى الأمور بيدِ (المجلس) من جديد، إلى حين إشعار آخر.. وإشهار آخر.. وإبهار آخر يشوِّس عيون «زرقاء اليمامة» الرانية نحو مستقبل مصر.
■ ■ ■
فى طريقى إلى لجنة الانتخابات سألنى أحد الأصدقاء مستنكراً: كيف تكون مناصراً للثورة المصرية ومتأكِّداً من أن الانتخابات خدعة لتشتيت الأنظار، ثم تذهب للإدلاء بصوتك؟ أجبته بضرورة أن نفعل هذا وذاك، فنشارك الراغبين فى ضبط الأمور بأداء الواجب الانتخابى، ونشارك الحالمين بمستقبلٍ أفضل بتأييد الموجة الثانية من الثورة المصرية. ومهما بدا من خلافٍ بين هذا الموقف، وذاك، فكلا الأمرين يرتجى الخير لمصر ولا بد من القيام به.. عاد الصديقُ فسألنى مستفهماً: وماذا عن الوزارة الجديدة التى يشكلها الآن «الجنـزورى»، أليست هى (حركة) جديدة لإجهاض الثورة وإبقاء الفورة؟ قلت: بلى.
وبلا تحفظٍ، ثارت المخاوفُ عقب تباشير الانتخابات، وعسعس التوجُّسُ من (الإسلاميين) حتى من قبل الإعلان عن النتائج الرسمية للدور الأول من المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية. وظهر بالإعلام بعض السلفيين مبتهجين، وساكبين على نار التوجُّس العام زيتاً جديداً. فمنهم مَنْ قال بأن أدب الأستاذ «نجيب محفوظ» يدعو للدعارة! ومنهم مَنْ قال إن وجه المرأة مثل فرجها! ومنهم مَنْ قال بأنهم حين يحكمون سوف يقبلون غيرهم، على مضضٍ،
 لكنهم لن يسمحوا لمسيحى بتولِّى أىِّ منصبٍ قيادىٍّ ! ومنهم مَنْ أكد أن «السلفية» آتيةٌ للحكم لا محالة، والإسلاميين قادمون بلا بديل.. وما هذه كلها، فيما أرى، إلا ترهات إعلامية تقترب من التهريج والبهرجة التليفزيونية، بأكثر مما تتصل بطبيعة هؤلاء الناطقين باسم الإسلام الصحراوى الأصفر، فى وطن الإيمان السمح الأخضر.
وبلا تردُّد، أميلُ إلى القول بأن (السلفيين) ليسوا مؤهلين لقيادة مصر. فهم مهما كان من وفرة الأصوات الانتخابية التى أُعطيت لهم، ومهما سيكون من نتائج فى الخطى الانتخابية القادمة، ومهما سينتهى إليه النظر فى «الطعون» الكثيرة المقدَّمة ضدهم، ومهما كان من «الملاعبة» التى تجرى فى الخفاء بينهم وبين قادة العسكر الحاكمين.. فإن مصر لن تكون يوماً بلداً (سلفياً) بالمعنى الذى انتشر مؤخراً، والسلفيون ليسوا جماعة واحدة حتى تتآزر لقيادة البلاد، واللعب السياسى سوف يفسد السلفيين مثلما هو مفسدٌ للعسكر.
وبلا تطويل، فإن ما ينطبق على الموصوفين بالسلفية، ينسحب أيضاً على المعروفين بالإخوان المسلمين. فهؤلاء وأولئك، بينهم خلافات لا تكاد تقع تحت الحصر، وليس صحيحاً ما يشاع من أنهم سوف يتوافقون جميعاً على قلب رجلٍ واحد، تحت قبة البرلمان، إذا طُرح أحد الموضوعات التى تبدو صريحة الحكم فى الشريعة الإسلامية، كإباحة المشروبات الكحولية، أو تلك الموضوعات الملتبسة وليس فيها حكمٌ شرعىٌّ محدَّدٌ، كأن يثار مثلاً موضوع حظر السياحة لأنها نشاطٌ اقتصادى كريه، ولا تدعو إليه الشريعة،
 ففى هذه الحالة سوف يجرى بينهم الخلاف على أسس شرعية أيضاً، وتُساق على لسان بعضهم حُجج تقدح فى موقف بعضهم الآخر. كأن يُستعمل المبدأ الشرعى القائل «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» أو يُلتفُّ على الأمر بالقاعدة المطاطية «السياحة رديئها ردىء، وجيدها جيد».. وذلك على النحو الذى كان مطروحاً قبل عشرين عاماً على الساحة (السلفية) بصدد الموقف من التليفزيون، وكان معظم «السلفيين» لا يضعون فى بيوتهم أجهزة تليفزيونية، ثم أقبلوا على الأمر وصارت لهم بعد حين قنوات تليفزيونية خاصة، كثيرة، لا يملك مثلها اليساريون ولا العلمانيون ولا الليبراليون..
■ ■ ■
إن التوجُّس من السلفيين والخوف من الإخوان، أو الخوف والتوجس من كليهما، هو شعورٌ عامٌّ عامرٌ، إعلامياً، لكنه فى غير محله (بل غير مبرَّر)، وقد ساهم فى إذكائه وتهييجه أصحاب المصالح فى الإذكاء والتهييج، ابتداءً من البرامج الحوارية التليفزيونية «المنقِّبة» عن كل مثيرٍ لضمان رواج مؤشرات المشاهدة، وبالتالى جنى أرباح «الفقرة الإعلانية». وانتهاءً بالحاكمين الذين ذكرتُ فى مقالةٍ سابقةٍ أنهم لم يجلسوا يوماً على كرسى الحكم، ثم يتركوه طوعاً.. كانت المقالة بعنوان: هل ترك العسكريون حكم البلاد؟
يتساءلون: كيف نجح الإخوان والسلفيون فى الانتخابات؟ الإجابة عن هذا السؤال السهل سهلة. فالانتخابات هى أحد تجليات «اللعبة» السياسية، وقد كان «الملعب» خالياً. والانتخابات هى الحصر العددى لأصوات الناخبين والنسب المئوية لهذه الأعداد، والمناطق التى تصوِّت للسلفيين والإخوان هى الأكثر عدداً.. ومن هنا، فإن الأعداد والإعداد، كان كلاهما بيدِ أصحاب الاتجاهات الدينية بالضرورة، ومن اللازم أن يكون كلا الأمرين (العدة والعدد) بأيديهم.. لماذا؟ سوف أقصُّ أولاً، واقعة جرت قبل عامين:
مع ازدحام طريق الكورنيش صيفاً، لكثرة الوافدين على الإسكندرية، كنت أعود عصراً من مكتبة الإسكندرية إلى منـزلى بالمعمورة، بالالتفاف حول المدينة من الطريق المسمَّى الدائرى (وما هو بالدائرى فعلاً) وفى أحد الأيام كنت أثناء القيادة مشغولاً بمكالمة هاتفية، فدخلت فى غمرة الزحام من طريقٍ جانبىٍّ أسبق من الذى كان يجب أن أدخل منه.
 وإن هى إلا دقائق معدودات حتى ضاق الطريق واختلفت المعالم المعتادة، فأنهيت المكالمة لأجد نفسى فى منطقةٍ ما كنت أظن أن يوجد بالإسكندرية مثلها. فما هى إلا مستعمرةٌ عشوائيةٌ لحقت بالإسكندرية على جوانب الشارع المهول المسمَّى (خمسة وأربعين)، وقد قضيت يومها ساعتين حتى خرجت من بين الشوارع الضيقة والأزقة التى لا يزيد عرض بعضها على مترين.. وشعرت بالعار العام لأن بمصر أناساً يعيشون بهذه الكثافة فى هذا البؤس،
 وشعرت بعارٍ خاصٍّ، لأننى كنت قبلها أتوهَّمُ أننى أعرف كل شبر فى شوارع الإسكندرية، فإذا بى يومها يأخذنى «التيه» مع أول انحرافٍ يسيرٍ عن الطريق المرسوم.. بعدها بأيام رأيت من واجبى التعرف على الإسكندرية من جديد، لأن مدينتى التى هى مرآة وجودى، كان لها دوماً جانبان (منذ عصرها البطلمى الأول حتى سنوات قريبة) جانبٌ «شعبىّ» يضم مناطق محرم بك وكرموز وبحرى، وجانبٌ متفرنج يسمى «خط الرمل» لأنه يبدأ من محطة ترام الرمل،
 ويمر بمناطق الشاطبى والإبراهيمية وكليوباترا وجليم ولوران. وكان كلا الجانبين نظيفاً، ومعتزاً بذاته (وهما فى واقع الأمر صورة معاصرة للحى الملكى، وحى المصريين بالإسكندرية البطلمية) وكان للجانبين دوماً، ملحقات تشبه «الضواحى» بالنسبة لمدينة الإسكندرية، فمن الغرب «العجمى» ومن الشرق «أبوقير» ومن الجنوب «أبيس» ولم نكن نسمِّى هذه الملحقات (الإسكندرية) لأنها خارجة عنها، وليست متصلة عُمرانياً بها.
ومع التحيُّز الحكومى للمناطق الحضرية، وإهمال برامج (التنمية) فى الريف والأطراف، جرى نزوحٌ عشوائىٌّ هائلٌ، أحاط سكانه بالمدن الكبيرة عموماً وبالإسكندرية خصوصاً، فاتصلت المناطق السكانية، التى كانت فيما سبق (ضواحى) ثم التحقت بها المناطق التى زرتها بعد يوم (التيه) الذى أشرت إليه، فلما مررت بالحواف الجديدة للإسكندرية،
رأيتُ الهول وفرط الفقر فى مناطق: «محسن الكبيرة» و«محسن الصغيرة» و«الطوبجية» و«المأوى» و«أبيس».. وغيرها، وكنت أيامها أكتب رواية (النبطى) وأستحضر فى ذاتى الشخصية الرئيسة فى الرواية «مارية»، فوجدتنى أقول على لسانها فى القسم الثانى من الرواية: أهذه البلاد بلادى؟
■ ■ ■
وملايين الناس الذين يعيشون بؤسهم فى هذه المناطق الجديدة كان لا بد لهم من وسائل ضبط اجتماعى. ومعروفٌ أن لهذا الضبط نوعين: ضبطاً (رسمياً) يتمثل فى القانون العام والسيطرة الشرطية، وضبطاً (غير رسمى) يتمثل فى منظومة الأعراف الاجتماعية وموروث التقاليد عند الجماعات المتجانسة.. ولأن هذا الحشد الكبير، غير المتجانس أصلاً،
 جرى اجتماعه بهذه المناطق على نحوٍ عشوائى، من دون إقرارٍ لوسائل الضبط الرسمى وغير الرسمى. فقد كان أمام الناس هناك طريقان، إما أن تصير هذه المناطق مرتعاً للإجرام والانحراف بعيداً عن أى ضوابط، أو أن ينصاع الناسُ هناك للضبط البديل المتاح (الإسلاميين الجدد)، باعتبارهم قوة الضبط الوحيدة الفاعلة فى هذه التجمعات.
ومن هنا، توهَّم كثيرون أن الإسكندرية هى معقل للسلفيين، وأن نجاح الإسلاميين مضمون بالذات فى الإسكندرية! وفى واقع الأمر، ليست هذه المناطق أصلاً (الإسكندرية) التى عرفها التاريخ القديم والمعاصر، وهذه المستعمرات الملحقة بالمدينة ليس لأهلها بديلٌ عن الاستمساك بالإسلاميين، بل هم لا يعرفون غيرهم، وذلك من أجل إقرار أى «نظام» فى تلك الأحياء الجديدة العامرة. وفى واقع الأمر، فقد صنع نظام مبارك هذا الواقع بإهماله هؤلاء المصريين الذين لا ذنب لهم إلا أن الله خلقهم فى زمن مبارك،
 ومن ثم فليس مدهشاً أن يتقدم الإسلاميون فى الانتخابات، فى هذا المكان الذى يجب أن نسميه (لواحق الإسكندرية) أو قطاعها الحضرى المتصل. لكن لا يجوز أن نعمِّم القول بأن الإسكندرية معقل السلفية، لأنه قول غير صحيح، إلا إذا قصد «ملحقات» الإسكندرية وأحياءها الفقيرة، لا قلب المدينة ذاتها.
وحين قامت الموجة الأولى من الثورة، هابها السلفيون الذين كانوا يعانون مع بقية المصريين من ظلم نظام مبارك، وقال بعض شيوخهم بتحريم الخروج على الحاكم (عموماً)، التزاماً منهم ببعض المواقف الفقهية القديمة، بينما تأخر الإخوان فى اتخاذ قرار. لكن الشباب من أولئك وهؤلاء، انهمكوا بدافعٍ وطنىٍّ (لا عقائدى) فى الثورة، وكانت لهم مواقف مجيدة منذ يوم الخزى الحكومى المسمَّى إعلامياً: موقعة الجمل.
ولما انحسرت الموجة الثورية، انكشف قاع المجتمع المصرى وتقلَّبت أرضه فأخرجت ما أدهش الناس. وكان من هذه المدهشات، انتشار المذهب السلفى فى عموم البلاد، وتغلغل الإخوان فى المجتمع.. ولم يدرك الجاهلون المندهشون، أن هذا (الظهور) كان أمراً طبيعياً لا بد أن يعقب الثورة، وهو لم يقتصر على (الإسلاميين) وحدهم وإنما دفع (المظاليم) كلهم، على كثرتهم، إلى قلب الأحداث وبؤرة المشهد.. فمثلما طفا على السطح الإسلاميون، ظهر أيضاً نقيضهم، وإلا فما بال تلك الفتاة التى تعرَّت على الملأ ونشرت صورها عاريةً، وجهها وفرجها؟ وما هذا النجاح الكبير للفيلم الفقير فنياً، المثير جنسياً: شارع الهرم؟
 ولماذا كان (شارع الهرم) ذاته، هو أول الأنشطة التى استعادت حيويتها بمصر، فور انحسار الموجة الأولى للثورة؟ وما سر انتشار قنوات (الرقص الشرقى) وهزِّ البطون العارية، وهى قنوات تحظى اليوم بقبول واسع عند المشاهدين المصريين؟.. وليس معنى ذلك، أننى أدين الرقص الشرقى! وإنما مرادى هو الإشارة إلى أن تقليب بواطن المجتمع المصرى بعد الثورة، أظهر المتناقض (المختفى) من الأمور جميعها.
■ ■ ■
سوف أختم هذه المقالة بواقعةٍ أخرى جرت قبل سنوات قليلة، لعلها تلقى مزيداً من الضوء على هذه الجماعة المصرية المسماة إجمالاً (السلفية) وطبيعتها.. وهى قصة ملخصها الآتى:
كنتُ أتالم كثيراً من المصير الذى لقيه الباحث والمفكر المصرى، الصديق، نصر حامد أبوزيد. وكنتُ، ومازلت، أعتقد بأنه راح ضحيةً لضجةٍ إعلامية مفتعلة انتهت بخروجه إلى منفاه الاختيارى بهولندا.. وكان إذا جاء فى زيارة، يجريها سراً ثم تُنشر أنباء ولقاءات إعلامية معه، بعد انتهاء الزيارة، تحسباً للإسلاميين الذين سوف يقتلونه إذا عرفوا بوجوده فى مصر (هذا ما كان يزعمه أيامها الزاعمون) .
اتصلت تليفونياً بالدكتور نصر أبوزيد، ودعوته للمجىء إلى الإسكندرية والبقاء فيها ثلاثة أسابيع، للمشاركة فى برنامج (الباحث المقيم)، الذى ينظمه مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، ويقدم خلاله كبار الباحثين مجموعةَ محاضرات، تضم خلاصة أفكارهم فى المجال الذى تخصَّصوا فيه وأفنوا أعمارهم. قلت ذلك له، فضحك وهو يقول:
يا عم يوسف حرام عليك، إنت عاوزنى أموت عندك؟
يا نصر سيبك من الكلام الخرافى ده.. وبعدين كلنا هانموت فى الآخر، خلِّينا نموت فى بلدنا أحسن.
هل سأقول أفكارى بحرية، أم ستحجر علىَّ لأنى فى ضيافتك؟
يا نصر، قل ما تشاء، وسيكون ما تقول مطروحاً للمناقشة العامة.
طيب، أنا موافق.
عند الإعلان عن البرنامج، اعترض مدير أمن المكتبة ونقل لمديرها العام أن الجهات الأمنية العليا ترفض إقامة هذا الحدث بالمكتبة، خشية حدوث أعمال عنف من الجماعات الإسلامية والسلفيين! قلتُ لهم وقتها إنهم يتاجرون بالأوهام، ولا بد لنا فى مكتبة الإسكندرية من القيام بما يجب علينا القيام به، وإلا فلا معنى لعملى بالمكتبة.
 قالوا إن الأمر بيدِ جهاز أمن الدولة، المسمَّى فى الإسكندرية (الفراعنة)، نسبةً إلى اسم الشارع الذى يقوم بقربه المبنى الحصينُ لجهاز أمن الدولة.. فذهبتُ إليهم، وفاوضت اللواء الذى يرأسهم حتى أقنعته بأهمية الأمر وضرورة استضافة الدكتور نصر حامد أبوزيد.. سألنى: وماذا عن تأمين الدكتور نصر؟ فأجبت بأننى لا أرى خطراً حقيقياً يتهدَّده، وسأكون معه دوماً ولن أسمح بوقوع مكروهٍ له.. قال:
وليه أنت مهتم بنصر أبوزيد؟
لأنه لحمنا ودمنا، ووجوده خارج مصر حتى اليوم فضيحةٌ لنا فى العالم كله.
طيب، أنا موافق.
سألنى السلفيون قبل المحاضرة الأولى بيومين، إن كان يمكنهم حضور الندوات، فأكدت لهم أنها ندوات عامة وحضورها غير محظور.. ويوم المحاضرة الأولى جاء بعضهم مبكراً، ودخلوا مع بقية الناس واتخذوا موضعاً فى القاعة (جلسوا متجاورين) وما كدت أشرع فى تقديم الدكتور نصر أبوزيد، مشيراً إلى بعض جهوده فى مجال علوم القرآن، حتى علت من خارج القاعة جلبةٌ.. لأن فريقاً آخر من السلفيين جاءوا فى الجلابيب البيضاء،
 فمنعهم الأمن (الداخلى) وكادت تحدث بين الفريقين مشادة، لولا أن نزل مدير المكتبة بنفسه وكفَّ تعنُّت الأمن وأدخل (الإخوة) إلى القاعة، فجاءوا زرافات فى الأردية البيضاء واللحى الطويلة، واستمعوا وناقشوا وتحاوروا بهدوء فى المحاضرات كلها،
 ثم واظبوا على الحضور، وكان يأتى أحياناً معهم بعض الأجلّة من مشايخهم، ولم يحدث منهم أىُّ فعل مذموم، أو قول، خلال حضورهم الجلسات والمؤتمرات التالية.. فعرفت أن ما اشتهر عنهم سابقاً كان محض خدعة أمنية.
وتوالى مجىء نصر حامد أبوزيد، ومجىء السلفيين أيضاً، بل صار أول متحدث رسمى باسم «حزب النور» واحداً من تلامذتى العاملين تحت إدارتى بمركز المخطوطات، وصار «نصر أبوزيد» قبل وفاته بعامين عضواً فى مجلس إدارة مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، وهو المجلس الذى يشرف أيضاً بعضوية رجالٍ من أمثال «محمد سليم العوا،
 بشار عواد معروف» وهما من رموز الفكر الدينى الإسلامى المعاصر. ولطالما جلس هؤلاء جميعاً على منصةٍ واحدةٍ أمام جمهورٍ واحدٍ يجمع بين العلمانيين والسلفيين، والمتفلسفين والإخوان، وإخوان الصفا وخلان الوفا..
فتدبروا.    

الحالة الحدوديةُ الحرجة.. ليبيا نموذجاً
تأتى هذه المقالة متأخرةً عن موعدها بقرابة شهر، وقد أشرت إليها فى خاتمة مقالة (المسألة الإسرائيلية) على أنها المقالة القادمة التى تأتى فى إطار استعراض التأثر والتأثير المتبادل للعملية العجيبة الجارية فى مصر الآن، وهى عملية تفريغ الثورة المصرية التى انطلقت فى يناير الماضى، من محتواها، وإحلال الفورة (وبالأحرى الفورات) فى محلها، لصرف الأنظار عن المسار العام للثورة المصرية، بإشعال الحرائق (المحدودة) المشوِّشة على التوجهات الأساسية لثورة المصريين (الأولى) فى تاريخهم.. لماذا؟ لأن الثورة المصرية الحقة التى انطلقت فى يناير الماضى، تهدِّد سلطان البعض، أو بتعبير أدق: تهدد مصالح بعض الذين ارتبطوا بالسلطان السياسى (الساقط) الذى كان الرئيس المخلوع مبارك هو رمزه الأول، لكنه بالطبع لم يكن المستفيد الوحيد منه.
ولكن الأحداث التى التهبَت فجأةً فى البلاد، مع مجىء الموجة الثانية من الثورة المصرية، ثم قمعها فى شارع «محمد محمود» على النحو المريع الذى رأينا خلاله عيوناً تُفقأ وشهداء تُلقى جثثهم على أكوام القمامة (إلى آخر هذه الشناعات) ثم فورة الانتخابات وتهييج الخوف من جماعات الإسلام السياسى، وغير ذلك من الوقائع العجيبة التى رأيناها الأسابيع الماضية، وكان لابد معها من تأجيل النظر فى الآثار (الخارجية) للثورة المصرية، وتحويلها لفورات متتالية، من أجل النظر فى الأمور الداخلية الأكثر خطورةً وإلحاحاً.. ولكن ذلك لا يعنى بالطبع، أن المسائل الخارجية المرتبطة بالثورة، أقل أهمية.
■ ■ ■
وقد رأينا فى المقالة المشار إليها كيف كان تعاملنا مع المسألة الإسرائيلية غير رشيد (قبل قيام الثورة) وكانت ثورة يناير فرصة لإعادة بناء التصورات المصرية الإسرائيلية، على نحو مختلف يخالف النهج العشوائى (التهوينى والتهويلى) الذى هيمن على نظرتنا لإسرائيل.. غير أن خمود الروح الثورى وانقلاب الثورة الحقة إلى فورة فارغة، أدى بنا إلى العودة لعبثية المواقف المصرية تجاه إسرائيل، وتم اختزال المواجهات المعقدة فى (لعبة) إنـزال العلم الإسرائيلى من فوق (السفارة) التى هى مجرد شقة فى عمارة بوسط القاهرة، كانت محاطة قبل الاعتداء عليها بسور أسمنتى (جدار عازل) يثير السخرية، وفجأة أُخلى الطريق لإفساح المجال لمتسلقى مواسير الصرف الصحى، وصولاً إلى العلم المرفرف فوق العمارة العالية.. كأننا بذلك حققنا إنجازا ثورياً، وتم لنا الانتقام من إسرائيل.
وأشرت فى خاتمة المقالة إلى أن المسألة الإسرائيلية هى فى نهاية الأمر جانب واحد من جوانب (الحالة الحدودية) التى تحيط بمصر من الجهات جميعها، عدا جهة البحر.. وهو الأمر الذى سنتوقف عنده، عبر السطور التالية، لبيان الوضع (الحرج جداً) لهذه الحالة الحدودية، من الناحية الليبية.
■ ■ ■
عندما خرج الثائرون على القذافى من (بنى غازى) قاصدين إسقاط القذافى ودولته العتيدة، ومن قبل أن يتم دعم الثوار الليبـيين بالسلاح وقاصفات حلف الناتو، كتبت ما نصه: «أيام القذافى صارت معدودة، لكن دماءً كثيرة سوف تسيل على الأرض الليبية..» وكنت أيامها أتوقع من مصر، تحت ولاية المجلس العسكرى الحالى، الحاكم، أن تسرع بمد يد العون للثوار فى ليبيا.. لأن ذلك من الأمور التى يُفترض أن تجرى بشكل تلقائى، لعدة أسباب من أهمها:
أولاً: ابتدأت ثورة ليبيا من جانبها الشرقى، وتحديداً من بنى غازى، وهى المنطقة التى كانت دوماً امتداداً طبيعياً لمصر، بل ظلت جزءاً منها طيلة التاريخ.. فمنذ الزمن المصرى القديم، لم ينظر أهل مصر إلى شرق ليبيا على اعتبار أنه بلد آخر، ولم يجد المصريون القدماء غضاضةً فى أن تكون إحدى الأسرات التى حكمت مصر زمناً طويلاً (الأسرة المسماة: الاثنان والعشرون) ليبية.. لأن أجيالها كانت قد تداخلت مع الكيان المصرى المعاصر، ومع الجيش، من قبل وصولهم إلى حكم البلاد بفترة طويلة. وبالطبع، لم يكن هناك ما يسمى ليبيا، وإنما هى فحسب الإقليم الغربى لمصر.
وفى الزمن اليونانى الرومانى (البطلمى) الذى امتد لمئات السنين، كانت المنطقة الشرقية من ليبيا تسمى «بنتا بوليس» أى المدن الخمس الغربية التابعة للإسكندرية، عاصمة مصر آنذاك ومن هناك، جاء (مرقس الرسول) كاروز الديار المصرية، وجاء أيضاً (آريوس) الهرطوقى الأعظم فى نظر الكنيسة المرقسية. وهو الأمر الذى يدل على انعدام الفوارق الحدودية وعدم وقوفها حائلاً أمام الناس جميعهم، على اعتبار أنهم، فى نهاية الأمر، تابعون للإسكندرية ومصر، وليسوا غرباء.
وكذلك كان الحال فى الزمن الإسلامى، حيث كان (المكان الآخر) الذى يلى مصر من جهة الغرب، هو ما سماه العرب «أفريقيا» ونسميه اليوم (تونس) ولم يكن هناك تمييز نوعى لهذه المنطقة التى سميت قبل مائة عام فقط: ليبيا.. ولذلك، كان لابد لمصر الثورة أن تستعين بالوعى التاريخى، لوضع الأسس التى يقوم عليها التفاعل الرشيد مع الجهة الغربية للبلاد.
ثانياً: إن الثائر الحق، بكل ما فيه من نُبل، لا بد له من الالتحام مع الروح الثورية فى كل مكان، فضلاً عن الأماكن اللصيقة أو التى هى امتداد طبيعى لبلاده فى قول، وفى قولٍ آخر: جزء منها.. وقد رأينا مصر بعد ثورة 1952 (على اختلاف الآراء حولها) تلتحم مع الحكومات الثورية فى أنحاء الأرض من كوبا إلى باندونج. ومن ثم، فقد كان الأَوْلى بنا ما دمنا ثواراً حقيقيين، أن نتفاعل بعمق مع الثورة الليبية التى وإن كانت تجرى فى بلد مجاور (بالمعايير الحدودية الكولونيالية = الاستعمارية) إلا أنها فى نهاية الأمر ثورة تقوم بمحاذاة بلدٍ ثائر، ومن المنطقى أن تتفاعل الثورتان وتتمازجا.. لا سيما أن الهدف من وراء الثورتين المصرية والليبية، كان متشابهاً بل متطابقاً: إسقاط استبداد حاكم استمر فوق الكرسى عقوداً.. القضاء على فكرة التوريث لجمال مبارك ولسيف الإسلام القذافى.. إيقاف النـزيف العام والغشوم لثروات البلاد، اعتماداً على الذراع الاستخباراتية وسطوة الجيش.. وغير ذلك من أوجه الشبه بين الثورتين، مما يجعل المسارعة المصرية إلى دعم الثورة الليبية، أمراً منطقياً ومتوقعاً.
ثالثاً: يعيش فى شرق ليبيا وغربها، مئات الآلاف من المصريين الذين لا يعلم إلا الله عددهم، فالبعض يؤكد أن عددهم يبلغ المليون مصرى، بينما البعض الآخر يزيد العدد إلى ما فوق المليونين.. وأيا ما كان، فإن هؤلاء المصريين يعدُّون بمئات الآلاف، وكان الواجب على مصر (الثورة) أن تنشغل بهؤلاء المحصورين بين مطرقة السندان الثورى، وسندان الغباوة القذافية.
رابعاً: ما دامت مصر (الثورة) تريد استعادة الدور المصرى «الحيوى» فى المنطقة، فقد كان الواجب عليها المسارعة إلى إعلان موقف واضح من الثورة الليبية، ولو على مستوى التأييد السياسى للثوار.. وهو أمر لا يمكن الاحتجاج ضده بأننا كنا مشغولين بالداخل، فمهما كان من درجة هذا الانشغال، فهو لم يكن ليمنع من إعلان موقف «رسمى» من مصر، يدعم حركة التحرر الليـبى الوليدة.. ولا أريد أن أزيد أو أتزيد، بالإشارة إلى الدور الذى سارعت إليه «قطر» بينما مصر مشغولة باللعب السياسى بمسألة الأولية: الدستور أولاً، الانتخابات الرئاسية أولاً، محاكمة مبارك أولاً، استعادة ثروات مصر أولاً، إدارة عجلة الإنتاج أولاً.. إلخ، مع أننى لم أفهم حتى الآن، ما المانع فى أن تتم هذه الأمور جميعها (معاً) فى خطوط متوازية تهدف كلها إلى الخروج بمصر والمنطقة من حضرة الغياب الذى امتد عقوداً من الزمان.
■ ■ ■
غير أن الدواعى والأسباب السابقة، لم تحرِّك مصر فى اتجاه الدعم اللازم للثورة الليبية. أو بعبارة أدق، لم تدفع المجلس العسكرى لوضع (استراتيجية) للتعامل مع ما يجرى فى ليبيا، لأنه انشغل عنها بما يجرى فى الشارع المصرى، أو ما يجريه المجلس عن عمدٍ أحياناً، أو بغير قصدٍ فى أحيانٍ أخرى.. غير أن هذا (التقصير) لم يقتصر على المجلس العسكرى، بل شمل أيضاً القوى السياسية التى لم نر لها موقفاً معلناً مما يجرى فى ليبيا، كأن الأحزاب والجماعات السياسية المصرية لا تدرى بما يجرى من حولنا.. وحتى الجموع الثائرة فى مصر، غاب ذلك عن وعيها بسبب انشغالها بما يتفاقم فى (حوش البيت) المصرى، أو فى الحوش المصرى للبيت الليبـى.
ومع تصاعد العنف إبان المواجهات التى جرت بين الثائرين فى ليبيا وحاكمهم الدموى (والهزلى) معمر القذافى، عانى المصريون المغتربون فى ليبيا من ويلات عديدة، ولم يجدوا سبيلاً للخروج من هناك، حتى بادرت دول أخرى لنقلهم بالسفن والطائرات، ثم تحركت (القيادة المصرية) تحت الضغط، وأرسلت بعض السفن لنقل بعض هؤلاء البائسين، بينما دولة عربية مثل قطر (الواقعة جغرافياً عند أبعدنقطة عن ليبيا!) تضع يدها فى الأرض الليبية، وكأنها الأرض المجاورة للقطريين، لا للمصريين، وقد كان ذلك من عجائب الأمور.
■ ■ ■
طيب. لو قلنا إن ما جرى من تقصير مصرى تجاه الأحداث فى ليبيا، كان مرجعه إلى الاضطراب العام الواقع بمصر، بسبب الابتداء المفاجئ للثورة المصرية فى يناير الماضى، فماذا سنقول فى الإهمال الحالى للحالة الليبية والأحوال الحدودية كلها بعد شهور من قيام الثورة فى مصر.. هل سنظل متغافلين عما يجرى هناك؟ وإلى متى سيدوم هذا التغافل، على الرغم من الروابط الوثيقة بين البلدين والأثر القوى المتبادل بينهما؟
إن التشويش على الثورة المصرية، والحرص على إجهاضها وإحلال (الفورة) مكانها، بسبب التكالب على المكاسب أو لأى سبب آخر، يؤديان إلى إهمالٍ للوقائع التى تجرى بسرعة على الحدود المصرية، سواء فى ليبيا، أو السودان، أو السعودية، أو إسرائيل، وهو إهمال سوف ندفع ثمنه غالياً بعد حين لأن الأحداث المتلاحقة فى النواحى الحدودية اللصيقة، والبعيدة أيضاً، لا بد لها فى نهاية الأمر أن تنعكس بشكل مباشر على الواقع المصرى، وتؤثر فيه بشكل كبير لا يمكن التغافل عنه إلى الأبد، بل لا بد من توجيه أنظارنا نحوه، واتخاذ ما يلزم من تدابير تتلافى التقصير المصرى تجاه ليبيا.
على أن الأمور الليبية لم تستقر بعد مقتل القذافى والتنكيل بجثته، ولم تتوقف مع قطع أصابع ابنه عقاباً على إشارته بها وهو يهدد الناس أثناء الثورة الليبية، مستهيناً بالثائرين على طريقة (من أنتم ؟) التى ابتكرها أبوه.. ولم تقتصر على مشاهد العنف التى رأيناها على الشاشات والمشاهد الأخرى التى لم نرها، لأن الذين يتحكمون فى الإعلام لا يريدون لها أن تُرى. أعنى مشاهد من نوع: مقتل قائد الثوار «عبدالحميد يونس» على أيدى الثوار! تغيير التحية المعتادة (السلام عليكم) لتكون بعد الثورة: الله أكبر! حوادث الاغتصاب التى جرت من الفريقين (اعتداء الميليشيات، تجاوزات الثوار) ما لا حصر له من أسلحة مكدسة فى بيوت الناس، ومستعدة فى أى وقت للإطلاق على المخالفين للمسلَّحين.. قطع الطرق الحدودية مع مصر وتونس.. تهريب الأسلحة المتقدمة من ليبيا إلى مصر.. القلاقل التى تثور هناك فى كل حين ولا نعلم إلا القليل عن القليل منها.. التداخل بين القبائل الليبية الممتدة فى غرب مصر، وأصولها فى ليبيا.. ضرورة إعادة إعمار ليبيا بعد دفع تكاليف ثورتها (الباهظة).
■ ■ ■
لا مناص لنا من القول إننا فى مصر، لا نعيش فى العالم وحدنا، ولسوف نتأثر بشدة بكل ما يجرى من حولنا، خاصةً خلف حدودنا القريبة.. ولا بد من الإشارة إلى اعتقادى، وأتمنى أن أكون مخطئاً، بأن الحالة الليبية لا تزال حُبلى بحوادث عنف سوف تقع متفرقة، ثم تتأجج مع اقتراب الصيف المقبل وابتعاد الوهج الثورى (ومن ثم التغطية الإعلامية المكثفة).. وهذه الأمور كلها، لا ينبغى علينا فى مصر أن نهملها ونتقاعس عن النظر إليها بما تستوجب من اهتمام، لأنها ستكون مؤثرة لا محالة فى الواقع المصرى.
إن الواقع المصرى، والمستقبل أيضاً، لا يتشكل فى الفراغ بعيداً عن تلك الحوادث الجارية خلف الحدود فى ليبيا وفى غيرها من البلاد المتماسَّة معنا حدودياً، أو تلك الأبعد قليلاً من حيث الجغرافيا، لكنها ليست بعيدة من حيث المصالح والتوازنات الدولية.. غير أن المصالح والتوازنات (الداخلية) تذهلنا عن ذلك، وتتشوَّش الرؤى العامة بفعل الفورات المفاجئة التى تطفر فى مصر كل حين، ومعظمها لا مبرر له إلا حماية مصالح أفراد محدودين لا يتورَّعون عن إشعال الحرائق الصغيرة هنا وهناك، وليس هدفهم (النار) وإنما الدخان الذى يُعمى الأبصار إلى حين، حتى يتمكنوا من ترتيب أوضاعهم لتناسب الواقع الجديد الذى فرضته ثورة يناير على نواحى مصر.. ولا يسعنى هنا إيراد (الأمثلة) على هذه الفورات التى لا تكاد تقع تحت الحصر، فهى أمثلة مشهورة واضحة للعيان.. ولسوف نختتم هذه السباعية، الأسبوع القادم، بمثالٍ صارخ عليها. وهو مثال كما سنرى، بالغ الدلالة على الحالة المصرية وما يتم فيها خفيةً وعلانيةً، بغرض إجهاض الثورة وإبقاء الفورة.


-----



ما قيمةُ «العقل» وما هى فائدته؟ العقلُ هو ما به يتميَّز الإنسانُ عن البهائم، وبه يكون تمييز الأشياء والحكم عليها، تمهيداً للوقوف منها موقفاً رشيداً والتصرف حيالها بحكمة.. ما معنى «الحضارة» وما أهميتها؟ الحضارة هى الموروثُ الفكرى والمادى (أو اللامحسوس والملموس) للجماعة الإنسانية، وهى الخبرةُ المتراكمة فى العقل الجمعى عبر الأجيال، وصولاً بالفرد والجماعة إلى حالة «التحضر» التى يمكن معها الحكم على الأشياء بشكل رشيد والتصرف حيالها بحكمة..
 ما الصلة إذن، بين العقل والحضارة؟ الصلةُ هى التفاعلُ الداخلىُّ بينهما. فالحضارة نتاج العقل والتعقل والرشد الإنسانى، وفى المقابل من ذلك، فإن قدرات العقل تتطور بفعل الموروث الحضارى الجامع للأحكام والأفعال الرشيدة.
ما ورد فى الفقرة السابقة، هو (بديهيات) إذا غابت عن الأذهان، حطَّت من مكانة الإنسان وجعلته فى مرتبة الكائنات الدنيا، بل جعلته أدنى من الحيوان الأدنى. لأن الفرد والجماعة الإنسانية، كليهما، إذا غاب عنهما الحكمُ العقلى والفعلُ المتحضِّر صارا أسوأ حالاً من بهيمة الأنعام.
وفى مبتدأ هذه «السباعية» كتبتُ عن حالةٍ ذهنية خطيرةٍ تمر بها اليوم عقولنا الفردية وعقلنا الجمعى، هى حالة (المواجهة مع الجنون)، التى أشار إليها الفيلسوف الفرنسى الشهير «ديكارت» فى كتابه الأشهر: التأملات.. واليوم فى ختام (السباعية) أشير إلى حالةٍ ذهنيةٍ خطيرةٍ هى الأخرى، وهى الحالة التى طالما أشار إليها الفلاسفة، بل جعلها بعضهم كما سنرى موقفاً عاماً من الوجود.. هو الموقف المعروف فى تاريخ الفكر الإنسانى، باسم: مذهب تعليق الحكم.
حسبما يرى غالبية المؤرخين، فقد بدأت «الفلسفة» من اليونان القديمة. وإن كنتُ أرى خلافاً لهم أن اليونان القديمة لم تخترع الفلسفة (ولا المنطق) ولكنها كتبتها ونشرتها، بعدما تسلَّمت أصولها من مصر القديمة ثم طوَّرتها وتفنَّنت فيها. فليس مصادفةً أن أوائل فلاسفة اليونان وكبارهم، جاءوا إلى مصر وتعلَّموا فيها، فمن هؤلاء: طاليس «أول الفلاسفة» وفيثاغورس «أبدع الفلاسفة» وأفلاطون «أشهر الفلاسفة».. وقد ظل العقل اليونانى الوهَّاج يتطور بالفكر الفلسفى والعلمى،
حتى بلغ القمة مع العملاق (أرسطو) الذى أسماه العرب المسلمون: المعلِّم الأول. ولكن، لا يبقى بعد بلوغ القمة غير النـزول والانحدار، إذ لا يمكن المكوث فوق أى (قمة) فإما أن يواصل الإنسان الصعود أو يبدأ فى الهبوط من الجهة الأخرى.
 وقد «استراح» العقل الإنسانى برهةً من بعد أرسطو، وهو الأمر الذى هبط بمستوى الفلسفة فى اليونان، فظهرت هناك ثم انتشرت المذاهبُ الفلسفيةُ المتأخرةُ، التى منها مذهب «الشكاك» الذين قرروا مبدأ: تعليق الحكم.
فى الفترة اليونانية المتأخرة، التى هى الفترة المبكرة من المسيحية، انتشرت مذاهب فلسفية متواضعة ومرهقة الذهن، رأت أنه من (المريح) للإنسان أن يتخذ من العالم موقفاً سلبياً رافضاً، وهو الأمر الذى نراه عند «الكلبيين» و«الشكاك»، الذين قال بعضهم إنه من العسير على العقل الإنسانى أن يحكم على الأشياء بالإيجاب أو بالسلب، لأن الحجج كلها متعادلة.
 ففى كل خيرٍ شرٌّ، وبالعكس. وفى كل حقٍ شىءٌ من الباطل الملتبس معه، وبالعكس. وفى كل موقفٍ صائبٍ جانبٌ من الخطأ إذا نظرنا من زاوية أخرى، وبالعكس.. وعلى هذا الأساس، رأى هؤلاء أن (الأسلم) والأكثر راحة للذهن، هو عدم اتخاذ أى موقف من أى شىء، وتعليق الحكم (العقلى) على أى قضية.
وقد طوَّر الفيلسوف الألمانى الشهير «إدموند هوسِّرل» هذه الفكرة، وذهب بها مذهباً جديداً فى إطار فلسفته المسماة الظاهراتية (الفينومينولوجيا)، مستخدماً الكلمة اليونانية القديمة «إيبوخى» للتعبير عن المصطلح الفلسفى، الذى صار اليوم مشهوراً على الألسنة، ويستعمله كثيرٌ من الناس وهم لا يعلمون أصله وفحواه، وهو مصطلح: الوضع بين قوسين.. وهى الفكرة التى يشرحها لنا د. زكريا إبراهيم فى كتابه (دراسات فى الفلسفة المعاصرة) بقوله: لا تستطيع الفينومينولوجيا عند هوسرل،
 اصطناع منهج الشك الديكارتى، الذى يرتاب فى كل شىء، بل تتبع منهج التوقف عن الحكم، وهو ما يسميه «هوسرل» إيبوكيا (إيبوخى) بأن يضع بعض القضايا بين قوسين، دون الاهتمام بالتوقف عندها، أو الاهتمام بها والحكم عليها..
هذا ما قرره «هوسِّرل»، الذى اخترع تعبير (الوضع بين القوسين) واستعمله كمبرر للتوقف عن إصدار الأحكام فى حالات معينة. وحسبما أرى، فإن فكرة «هوسرل» هذه، نقضٌ للفلسفة ونقيض لها، لأن العقل حين يتوقف عن إصدار الأحكام، ويستطيب «تعليق الحكم» يكون قد فقد قيمته وقلَّل من جدواه.. فإذا صار «العقل الجمعى» يفعل الشىء ذاته، حدث فى الجماعة الإنسانية ما يحدث مع الفرد حين يستسهل اللجوء إلى «تعليق الحكم»، وهو الحالُ الذى نمر به فى مصر الآن، كما سيأتى بيانه.
فى الليلة التى كتبتُ فيها هذه المقالة (السبت الماضى) كانت النار تأكل مبنى الجمعية العلمية المصرية (المجمع العلمى) وكانت أرواحٌ مصرية بريئة تُزهق فى الشوارع بغير رحمة، فيزيد فى الأمهات المصريات عدد الثكالى ويتأكد فشل «المجلس العسكرى» فى إدارة شؤون مصر، مع فضيحة جديدة تنضاف للرصيد الثقيل، الجامع لفضائح من مثل: فقء العيون بالطلقات فى شارع محمد محمود، الصفقات الخفية مع ممثلى الإسلام السياسى،
 اللعب بورقة الانتخابات لاختيار برلمان «محدود الصلاحيات» والتبشير برئيس للبلاد سيأتى بعد شهور «محدود الصلاحيات» وتأكيد أن الشيخ الجنـزورى لديه صلاحيات غير محدودة..
 ومن قبل ذلك: تسريب مشاهد فيديو موحية بأن «العسكر» هم الذين انقلبوا على «مبارك» وليس الثوار المصريون هم الذين قلبوه من فوق الكرسى إلى مزبلة التاريخ. مع أن الحقيقة التى لا يمكن الشك فيها، أو تعليق الحكم عليها، هى أن ثوار مصر هم الذين (قلبوا) مبارك،
 وسوف يقلبون من بعده كل الذين يستحقون الإلقاء فى المزابل، مهما بادر هؤلاء بالقهر وبإلقاء جثث الشهداء فوق أكوام القمامة، وقاموا بتعرية الفتيات فى الطرقات وبِدَسِّ أصابع بعضهم فى مكمن الكاتبة الصحفية وبالكشف عن عذرية المتظاهرات فى ميدان التحرير إمعاناً فى إهانتهن.. ومهما كان من ترديد العبارة الجوفاء «الجيش حمى الثورة» من دون تمييز بين الجيش ومجلسه العسكرى، ومن دون بيان لمن تمت الحماية منه.
قطعٌ لازم.. إلى هذه المرأة المصرية (أياً مَنْ كانت) التى سحلها جنود الخسة والخيبة، وقاموا فى يوم عارٍ عليهم بتعرية جسمها إهانةً لشرفها.. إلى هذه المرأة المصرية الشريفة الحرة أقول: إن عُريك العلنى الذى رأيناه بعين الحسرة، هو عنوان شرفك وقد تعرَّت من قبلك، وسُحلت، الفيلسوفة السكندرية البديعة «هيباتيا» فما زادها ذلك إلا شرفاً وهيبة. ولو جرى مع ابنتى «آية» الويل الذى جرى معك، لافتخرتُ بها بقية عمرى ثم قضيته ثائراً لها.
قلبى يسيل بين ضلوعى، دمعات ألمى تسقط الآن على الأوراق، وأشطب كثيراً من الكلمات.. لا أستطيع مواصلة الكتابة.. سوف أكمل هذه المقالة فجر الغد، بعدما أبثُّ للبحر بعضاً من لوعتى وجزعى على ضمير مصر المهان على الملأ، على يد فئة فقدت الضمير فى شوارع مصر، وفى قنوات التليفزيون المصرية.. مصر التى أبدعت للإنسانية، لأول مرة،
 فكرة الضمير. حسبما أكد «هنرى برستيد» فى كتابه (فجر الضمير).. كيف سأنام اللية.. لو ينفجر دماغى، فأستريح للأبد..
إن ما يجرى الآن أمام مجلس الوزراء موصولٌ بما جرى من قبل أمام ماسبيرو، وبما سيجرى مستقبلاً أمام كل أمام.. وقد صار واضحاً للجميع أنها فورات مصنوعة (مقصودة) تهدف للانحراف بمسار الثورة المصرية وتأخير نتائجها بقدر المستطاع،
وتشتيت التوجهات العامة بالإصرار على إجهاض الثورة وإبقاء الفورة.. صار هذا واضحاً اليوم للجميع، ومع ذلك فإن غيوماً إعلامية وإجهاداً ذهنياً مدعوماً بما لا حصر له من ألاعيب سياسية، أدى بعموم المصريين إلى حالة من فقدان القدرة على إصدار الأحكام، أو بعبارة أوضح: أوصل الناس إلى حالة تعليق الحكم.
لم يعد المصريون فى مجموعهم يتفقون على حكم واحد بصدد أى موقف، والأنكى من ذلك أننا صرنا نصدر أحكاماً متناقضة على الشىء ذاته. وصار فينا من يقول هذا أو يقول ذاك، على الرغم من التناقض التام بين القولين: الثوار هم ضمير مصر الحى،
 الثوار هم نكبةٌ على البلاد.. الثورة تعنى الإصلاح الجذرى للفساد العام، الثورة تعنى الفوضى وقطع الأرزاق.. الجنـزورى مقبول كرئيس للوزراء، الجنـزورى مرفوض كرئيس للوزراء.. الجيش حمى الثورة بإخلاص قواده للبلاد، الثورة حمت الجيش وحققت مصالح قواده فى البلاد.. القواد قواد حقاً، حقاً القواد قواد.. المشيرُ بشيرٌ، المشيرُ خطيرٌ.. إلخ.
ولا يظننَّ واحدٌ من الساذجين أو البُلهاء، أن ما سبق من تناقض هو دليلٌ على «الديمقراطية» أو الرأى والرأى الآخر أو الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية.. إلى آخر هذه التعبيرات الساقطة الممجوجة. فالذى يجرى حقاً، هو حالة من التخبط المقصود إحداثه، للوصول بالناس إلى «الحيرة» ومن ثم إلى «تعليق الحكم».
 ولكن موقف (تعليق الحكم) فى هذه الفترة الحرجة، معناه أن تزداد الفترة المقبلة حرجاً وإحراجاً وإخراجاً للثورة المصرية عن مسارها، وهو ما سوف يقود إلى كوارث مقبلة أشنع مما رأيناه سابقاً ونراه حالياً.. هذا ما ينطبق على (المأساة) فى عموم الديار المصرية، فماذا عن مأساة مكتبة الإسكندرية؟
قبل قيام ثورة يناير بقرابة عامين، كانت حكومة مبارك وأهل بيته قد قلبوا للمكتبة ظهر المِجَنّ (أى انقضى شهر العسل وبدأت أيام البصل) وهو ما ظهر واضحاً فى انصراف الرئيس المخلوع عن الاهتمام بأمر المكتبة، التى من المفروض أنه رئيسها.
وندرت زيارات زوجته التى كانت تزعم قبلها أن المكتبة أحد إنجازاتها العالمية (وهو زعم غير صحيح بالمرة، فالمكتبة صرح شيدته أيادٍ مصرية مخلصة خلال التسعينيات، بمعاونة دولية كبيرة)..
 وقد ظهر هذا الحالُ الرئاسىُّ الجديد تجاه المكتبة، فى عدة تجليات أشهرها تقليص الميزانية السنوية، والاستيلاء على وديعة المكتبة وتبرعاتها التى بلغت مليار جنيه مصرى، أدخلها الرئيس المخلوع فى حساب خاص له ثم دخل لينام عليها مستدفئاً برصيدٍ مالىٍّ لا يعلم إلا الله مقداره.
وقبل قرابة عام، كان الشاغل الرئيس لنا فى مكتبة الإسكندرية، هو كيف يمكن ضبط إيقاع الأنشطة ونفقات الإدارات، لتناسب التخفيض المتوالى للميزانية الحكومية (مع أن للمكتبة وديعة منهوبة تتجاوز المليار جنيه) وكان الطريق الأنسب هو عمل شراكات مع الجهات الدولية لإنجاز أعمال مموَّلة. وهو الأمر الذى كان نجاحه قد بدأ، مع عدة مشروعات مشتركة وفرت كثيراً من وجوه التمويل لأنشطة المكتبة (الأمثلة على ذلك لا تقع تحت الحصر).
وقبل عدة شهور، بدأ البعض هجوماً إعلامياً على المكتبة ومديرها، وتقلصت الميزانية التى كانت متقلِّصة من قبل، واعترف المخلوع بنهبه أموال المكتبة، لكن المنهوب لم يعد ملكاً للمكتبة (لا تسألنى لماذا؟) وبدأت القلاقل تزحف إلى ساحة المكتبة المسماة «البلازا» فصارت محلاً للمتظاهرين وللمطالبين بالإصلاح وللناعقين الزاعقين فى كل وادٍ.
. واضطربت الأحوال، فارتبك المدير (د . إسماعيل سراج الدين) وكادت المشروعات والخدمات تتوقف مع إهمال المسألة برمتها، نظراً للانشغال العام بما هو أعمّ. وقبل شهرين، انتشرت شائعة أو خبر خطير يقول إن مدير المكتبة «إسماعيل سراج الدين» ينوى إنهاء تعاقد ستة من العاملين، تعسفياً، فخرج جماعة من العاملين للتظاهر فى ساحة المكتبة،
وأعلنوا على لافتة كتبوها على عجل، عبارة (عفواً المكتبة مغلقة للإصلاح) فنـزل إليهم المدير للتحاور فحاصروه وكادوا يفتكون به، فجاء إليهم ضابط من الجيش وأخبرهم بما نصه «سيادة المشير مهتم شخصياً بمطالبكم، وسوف يأتيكم رده خلال ساعات، أو غداً على الأكثر» فهاجت مع هذا التشجيع الضمنى خواطرُ الكثير من العاملين،
 وانضموا للمتظاهرين ضد المدير، وأجمعوا على مطلب واحد هو رحيل إسماعيل سراج الدين (دون طرح بديل له) وجمعوا على ذلك توقيعات بلغت ألفاً وسبعمائة.. وبعد ثلاثة أيام، أعلن مجلس الوزراء (حكومة شرف)، الذى كان يقوم بدور السكرتارية للمجلس العسكرى، عن تجديده للثقة فى المدير..
قطعٌ آخر: رنَّ جرس تليفونى طويلاً، فتركت الكتابة لأردَّ على المتصل اللحوح، فجاءنى صوت شاب مصرى قال إنه واحد من قرائى، وإنه يتكلم من أمام مبنى «المجمع العلمى» ومعه أوراق كثيرة وخرائط أثرية من التى كانت محفوظة هناك (الساعة الآن بلغت الثانية عشرة من ظهر الأحد 18 ديسمبر) وأكَّد لى أن هناك الآلاف من هذه الوثائق النادرة ملقاة فى الطرقات، وهو يريدنى أن أرسل سيارة من مكتبة الإسكندرية لنقل هذا التراث، لأن بعض الناس يقدمونه للجيش وهو ليس جهة اختصاص.. قلت له، ضع ما معك فى كنيسة «قصر الدوبارة» مع ما تم جمعه هناك منذ الأمس،
 فسألنى: هل سترسل سيارة الآن؟ قلت: لا أعرف، فالعمل معطل فى المكتبة لأن الموظفين المناصرين لإسماعيل سراج الدين خرجوا فى تظاهرة لمواجهة الموظفين الثائرين ضده، وقد يتقاتل الجمعان أو يندسُّ بينهم من يؤجج نار الخلاف فتحتدم المأساة.
جدَّد مجلس الوزراء (ومجلس الأمناء) الثقة فى إسماعيل سراج الدين مديراً للمكتبة فهاج الثائرون ضده ونشروا ما سموه (ملفات الفساد) وسماه المدير (أخطاء إدارية سوف يتم تصحيحها).. اللافت للنظر هنا، أن أكثر من مائة واقعة من هذه الموصوفة بالوصفين المذكورين، يجرى التحقيق فيها فى (النيابة) منذ عدة شهور. ولم تصل النيابة إلى قرار، فلا هى حفظت التحقيقات وأبرأت ذمة المدير من التهم، ولا هى أحالتها إلى المحكمة كى يدافع عن نفسه بالطرق القانونية.. وظل الأمر معلَّقاً، واختلفت الآراء مع المدير وضده، حتى صار من العسير إصدار حكم على المسألة. بعبارةٍ أخرى،
 أدت حالة (تعليق الحكم) وعدم (حسم الحكم) إلى مأساة مكتبة الإسكندرية، التى تنذر بانهيارٍ ودمارٍ تامٍّ لن تستطيع مصر (المحروسة) ولا غير مصر، تعويضه.
. بينما تتسارع مستويات الهبوط والانحدار، ويجرى حالياً تبادل الاتهام بين أولئك وهؤلاء (المؤيدين للمدير والمعارضين).. المدير ومؤيدوه يؤكدون أنهم ماضون قُدماً فى طريق الإصلاح، لكن الثائرين يصرون على تعطيل العمل.
. المدير يقول إنه بدأ بالفعل فى تصحيح الأخطاء السابقة (التى تشفع لها إنجازات كثيرة) والثائرون على المدير يقولون إنه يسير على خُطى مبارك، ويخرِّب المكتبة بسيلٍ من القرارات التى لا يمكن معها إصلاح المكتبة مستقبلاً..
 والمراقبون للأمر والمتابعون له من قريب ومن بعيد، لا يملكون فى غمرة هذا الاضطراب (المقصود وقوعه) اتخاذ موقف واضح، لغلبة الحيرة ونـزعة (تعليق الحكم) على أذهانهم..
ماذا بعد؟.. لن نقع فى فخ «تعليق الحكم» أكثر من ذلك، بل نقول بإصرارٍ وعقلانية وتحضُّر: مهما كان من حالة الذهول الذهنى العام، ومن المواجهة العامة مع الجنون، ومن فقدان العقل الجمعى للقدرة على الحكم العقلانى، ومن الصخب المفتعل المشوِّش على الناس، ومن الحيل التى كانت مستورة فصارت مكشوفة.. مهما كان من ذلك كله، فلسوف تستفيق هذه البلاد وتنتصر ثورتها فى خاتمة المطاف.. لا محالة.