USATODAY.com News

Friday, March 23, 2012

واخدنا على فين .. في البرنامج؟ مع باسم يوسف

إنما الأعمال بالخواتيم.




فى صحيح البخارى من حديث سهل بن سعد رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم، قال: إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، الأعمال بالخواتيم. وفى رواية للإمام أحمد فى المسند صححها الأرناؤوط: وإنما الأعمال بالخواتيم. وفى المسند: لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بم يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعمل عملا سيئا. وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا. وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته. قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه. صححه الأرناؤوط والألبانى

Thursday, March 15, 2012

من أقوال الحسن البصري










إنما الدنيا حلم ... والآخرة يقظة ... والموت متوسط بينهما



ونحن أضغاث أحلام
 .
 
ومن حلم غنم ..  ومن خاف سلم
 

من حاسب نفسه ربح ... ومن غفل عنها خسر ...


من نظر في العواقب نجا ... ومن أطاع هواه ضل ...


فإذا زللت فارجع .... وإذا ندمت فأقلع ...


وإذا جهلت فاسأل .... وإذا غضبت فأمسك،


واعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه

Wednesday, March 14, 2012

ولا يملك العقل الا السجود‏..‏ ولاتملك العين الا البكاء




 ان الله موجود ليس لان المسلمين يومنون بوجوده‏,‏ ولكن لانه حقيقه مطلقه ازليه لا معني لاي شيئ بدونها‏.‏ الله هو سر الجمال‏,‏ والرحمه‏,‏ والموده‏,‏ والحريه‏,‏ والحياه‏.‏ واسماوه الحسني مطبوعه علي الورده‏,‏ وعلي اشراقه الفجر‏,‏ وعلي ابتسامه الوليد‏,‏ وعلي اطلاله الربيع‏,‏ وعلي كفتي الميزان‏,‏ وعلي صولجان الحكم‏..‏ فهو العدل الحكم‏..‏ وبدونه يستحيل العدل وتستحيل الرحمه وينطمس الكون ويظلم‏,‏ فهو نور السماوات والارض‏.‏ وهو الذي يمسك السماوات والارض ان تزولا ولئن زالتا ان امسكهما من احد من بعده‏.‏ ان الدين يبدا به‏..‏ والفلسفه تنتهي اليه‏..‏ والعقل يتوقف عنده‏..‏ فلا كيف ولا كم ولا اين ولا متي‏..!!!‏ وانما‏..‏ هو‏..‏ ولا اله الا هو ولا يملك العقل الا السجود‏..‏ ولاتملك العين الا البكاء ندما رفـعت الاقلام وجفت الصحف اسالوا لنا ولانفسكم الرحمه‏..‏ و  ا لتمسوا لنا ولانفسكم النجاه 

د. مصطفى محمود 

الخبؤ «2» - التحرير

الخبؤ «2» - التحرير

Monday, March 12, 2012

تدوين ذكريات المعتقل المؤلمة





أحمد رائف: إلى أشقاء السجن الذين تحملوا ضراوة المحنة وآلام الغربة في إيمان وصبر, ذكرى أيام قضيناها هناك وراء السدود والقيود نرجو أن تكون في ميزان الحسنات يوم الحساب والله من وراء القصد.


أحمد رائف- معتقل سياسي سابق: الزنزانة أربعة 1965 أغسطس، بعد ما خرجنا من المعتقل فكنت في زيارة للأردن سنة 1974 وكان لنا صديق هناك اسمه الأستاذ حسن التل رئيس تحرير جريد اللواء الأردنية وطلب مني قال لي يا أخي أنت عايزين نعرف إيه اللي حصل في المعتقل.. احك لنا إيه اللي حصل في المعتقل, فحكيت له شوية قال لي ده موضوع مثير جدا, طب ما تكتبه لنا, فقلت له ما فيش مانع, يوم في اثنين في ثلاثة كانت الإدارة بتاعة المجلة دية أو الجريدة عبارة عن فيلا دورين, الدور الأول فيه الإدارة والدور الثاني فيه استراحة, فجاء في يوم من الأيام وجاب لي واحد قال لي ده هيجيب لك أي طلبات, أكل شرب شاي قهوة ورق أي حاجة أنت تعوزها ولكن لن تغادر هذا المكان قبل أن تكتب لنا ماذا حدث في المعتقل, وفعلا قعدت محبوس في هذه الفيلا حوالي أكثر من شهر وشويه وكتبت البوابة السوداء.
يوم ما بدأت أكتب لا فكرت هل هو رواية ولا كتاب؟ دا هي مذكرة للأحداث التي حدثت في المعتقلات في الفترة ما بين 1965 و1972 من القرن السابق, فأخذ الكتاب هذا الشكل بعفوية شديدة ودون اجتهاد ذهني لعمل قالب معين يكون فيه الكتاب, هل هو رواية أو هل هو كتاب؟ وفي النهاية هو جمع بين الحاجتين دول, إن هو رواية فيها عنصر التشويق وعنصر الدراما, وهو كتاب أيضًا فيه معلومات وفيه مادة موجودة ما فيش تزايد ما فيش إختلاق لأن في شهود كتير موجودين أحياء وأسمائهم مذكورة سواء كان من جانب الأمن أو من جانب المعتقلين, ما فيش كان سبب جدي يخليني أروح المعتقل, ولكن الظروف اللي كانت في مصر سنة 1965 كانت تؤدي إلى اعتقال أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن لهم علاقة بجماعة الإخوان المسلمين, كنت بأشتغل في شركة القاهرة العامة للمقاولات, وكانوا بيدونا ساعتين من الساعة اثنين للساعة خمسة.. ثلاثة ساعات أجازه ونيجي بعد الظهر نشتغل تاني, صدفة قابلت واحد صاحبي, كنا بنتغدى في مطعم هنا للتابعي الدمياطي, فاكتشفت إنه بيشتغل مدير عام في شركة تانية فقال لي بتشتغل بكام؟ قلت له بآخذ سبعة عشر جنية ونصف مرتب, قال لي طب ما أنا عندي لك وظيفة أحسن بخمسة وثلاثين جنية, قلت له طب دي إمتى تيجي دي, قال لي دلوقتي بعد ما نتغدى نروح ويتم تعينك هناك, رحنا الشركة الجديدة فوجئت, قال لي يعني نعينك بس عايزين شهادة خلو طرف من الشركة القديمة اللي إنت كنت فيها, رحت الشركة بتاعتي قالوا لي تستقيل عشان نديك خلو طرف, استقلت أخذت خلو طرف وقلت استنى لغاية يوم السبت أسلم خلو طرف وأستلم الوظيفة الجديدة من يوم السبت, أنا اعتقلت يوم الأربعاء قعدت في المعتقل كله من غير وظيفة, سيبت القديمة ولم ألتحق بالوظيفة الجديدة, الشركة كانت هنا في العمارة دي, اللي كنت بأشتغل فيها في الوقت ده, الكلام ده يا إسلام كان من أربعين سنة, لي صديق ابن خالتي اسمه رمزي محمود, ساكنين في شقة في منشية البكري 4 شارع المسعودي, هو واخد أوضه وأنا واخد أوضه لاقيته بيخبط علي وبيصحيني, ما كانش البيبان مقفلة ولا حاجة, صحيت، إيه خير؟ قال لي مباحث أمن الدولة كان اسمها في الوقت ده المباحث العامة, العمارة دي 4 شارع المسعودي, الشقة اللي فوق الغسيل, جاؤوا الساعة ثلاثة بالليل وكانت الدنيا هادئة مش زي دلوقتي ماكانش في ولا عربية هنا, طلعوا خذوا البواب فتشوا المكان, فتحوا الباب دخلت مجموعة معها الرشاشات والمسدسات وضابط قال لي أنا محمد عبد الغفار تُرك رائد في المباحث العامة, أنت فلان, قلت له أيوه فلان, طيب عايزين نفتش الأوضه بتاعتك, تفضل, فتشوا الأوضه, كانت أهم حاجة فيها كتب لموها في صناديق وشويه أبحاث كاتبها وحاجات زي كده وخذوها.. يا نهار أبيض هو تمام.
إسلام: هو.. هو بالضبط.
أحمد رائف: هو.. هو نفسه, ده كان فخم جدا من أربعين سنة ما اتغيرش, ومع تباشير الفجر الرمادية كانت السيارة تقطع شوارع القاهرة النائمة بسرعة فائقة, وجلس الضابط بجوار السائق, أما أنا فجلست في المقعد الخلفي أفكر في مصيري بين مجموعة المخبرين, وكان عقلي يمور بأسئلة كثيرة سرعان ما عَرِفتُ إجابتها قبل أن تطلع شمس ذلك النهار، النهار الذي استقبلت فيه يوما من أكثر من أيام حياتي عجبا وغرابة, دخلنا على معتقل القلعة, ودخل الرائد محمد عبد الغفار تُرْكْ صحى واحد ثاني كان نائم على سرير سفري في أوضه كده تكاد تكون متر ونصف في مترين ونصف, أوضه صغيرة جدا فيها مكتب وسرير كان نائم عليه الضابط ده قام انتبه لما جاء له الوارد الجديد, وقالي اسمك ايه؟ واخذ البيانات بتاعتي وحطها في دفتر عنده وقال لي اقلع كل حاجة أنت لابسها, يعني الحاجات الممنوعة, إيه الممنوع؟ الحزام بتاع البنطلون النظارة الساعة أي حاجات معدنية خذها, دخلني من باب صغير كدة قال لي خش, وجدت مجموعة من البشر في حالة إعياء شديد, ووجهها لا يكاد يَبِين, معالمه تغيرت من الضرب بالشوم والأبكاس, والعينين وارمة والجراح في الأرجل والأيدي والأكتاف, مشهد مخيف ومرعب ولم أتصور أن أراه في يوم من الأيام, لاقيت شاب صغير كده جاء, قال لي تعالى, أنت فلان؟ قلت له أيوه أنا فلان, فشال يده وصفعني على وجهي, ودي كانت أول مرة الواحد يصفع على وجهه فأمسكت بخناقه وضربته في الحيطة, قلت له أنت رجل مجنون إزاي تضربني ده هنا في مجلس أمة وفيه دستور وفيه قانون اتلموا المخبرين وهو منعهم, قال سيبوه, وطلعني إلى عنبرين متقابلين في دور ثاني من مبنى معتقل القلعة, وقعد على كرسي وأمامه مكتب صغير وقال قل لنا بقى إيه كل المعلومات اللي عندك عن التنظيم وعن السلاح وعن التدريب؟ وقفت أمامه وأنا الحقيقة.. قلت له يا أفندم أنا لا كنت في تنظيم سري ولا تدربت على سلاح ولا حاجة زي كده, قال لي كده مش هتريح نفسك هتخش في مرحلة أنت مش أدها, تعالى أوريك حاجة, أخذني العنبر المقابل, أول ما دخلنا العنبر المقابل كان فيه ناس ساقطين على الأرض من الإعياء ولابسين ملابس داخلية بس وعرايا وجسمهم عليه علامات السياط وضرب الشوم وفي حالة يرثى لها قال لي بص لدول كويس, مش عارفهم؟ اكتشفت أن دول ناس أصدقاء كنت لسه معاهم أول أمس أو يعني لسه معاهم ما فيش وقت يسير جدا, وهنا في الزنزانة دي مات الله يرحمه ذكريا المشتولي وشلناه أنا ومصطفى عبد النبي وخرجنا به لأنهم طلبوا منا أنهم يأخذوه للتحقيق وما كنش قادر يتحرك هو كان ميت وإحنا فاكرينه أنه هو ضعيف مش قادر يتحرك, اكتشفوا وفاته فوق في عنابر التحقيق وصرفونا, كان المشرف على التحقيق أحمد رشدي اللي هو بقى وزير الداخلية بعد كده, واللي بيقوم بالتحقيق اللواء فؤاد علام, قعدنا هنا حوالي أسبوع.. يعني قضيناه دقيقة بدقيقة وساعة بساعة, لم نذق فيه طعم النوم لحظة واحدة, ولما كثر العدد نقلونا من هنا إلى معتقل أبو زعبل السياسي, بعد ملحمة من العذاب الشديد والقتل والتقتيل, وفي صبيحة يوم وجدت نفسي في المحمصة مع زقزقة العصافير وأخذت ما يسمونه بالطريحة وهي علقه بالهراوات, تناولت فيها ما لا يقل عن مائتي هراوة, ثم علقت على الحديد وكان عليًّ أن آخذ هذه الطريحة كل ساعة ونصف, وظللت معلقا ثلاثة أيام دون نوم, وما أفظع هذه الذكرى, فهي جملة تأخذ من وقت القارئ أقل من ثانية من الزمن, ولكنها كانت بالنسبة لي آنذاك شيء يجل عن الوصف ولا تحيط به الكلمات, انتهت في الآخر إلى فؤاد علام واللي كان بيساعده واحد اسمه عصام الشوكي أظن كان رائد أو نقيب, هو أخذ شوطه من التعذيب معايا, وبعدين قال لي اسمع أنا عايز أريحك وأريح نفسي, قلت له تفضل, قال لي أنت عارف القصة كلها قصة تنظيم سري وسلاح وتدريب وخطة أي كلام خارج الدوائر دي مالوش معنى, أنت عايز ترحم نفسك كلمنا في الحدود دي, قلت له طيب ساعدني, فقعد يساعدني وعملنا سيناريو من التنظيم السري, وقلت له بس موضوع السلاح ده صعب جدًا لأن ما كنش فيه سلاح فعلا, وإنما والمعارف نقدر نعمل منهم تنظيم سري طيب نجيب لهم سلاح منين, قال لي دي هنشوف لها حل بعد شويه بس خلينا ماشيين إن كان فيه تدريب وفيه سلاح وحاجات زي كده, بس واستقامت الأمور على هيكل لتنظيم سري رسمه اللواء فؤاد علام وأنا وافقته عليه وقال لي بقى عشان نعمله بشكل صحيح أنت هتكتبه بأيدك, أنا هأمليك وأنت تكتب بأيدك, وأذكر أن أنا ملأت تسع صفحات بإملاء اللواء فؤاد علام عن تنظيم سري وهمي مش صحيح مش دقيق وعن نية لاغتيال جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وعمل انقلاب في مصر, فقد كان المشهد مستمر بلا انتهاء وبلا أمل في الانتهاء, فمرة نجد أنفسنا في عنابر التعذيب, ومرة أخرى في الزنازين أو في دورات المياه, والحوادث تكتم على صدورنا بثقلها فنشعر بالاختناق, مواطنون أبرياء جاؤوا بهم من كل مكان بلا ذنب ولا جناية, ومحققون يضربون الناس بحث عن سر لا يعرفونه, والكل تطحنه رحًى ثقيلة من العذاب, وانتهت مجزرة القلعة ذات صباح وكان نتيجتها ثلاثة من القتلى وربما أكثر من ذلك وحوالي أربعمائة جريح بجروح بالغة.




ولعل أحد من الذين استضافتهم المباحث في أبي زعبل لا ينسى ليلة 31 أغسطس الرهيبة, يوم أعلن عبد الناصر بنادي الشباب السوفيتي بموسكو اكتشاف مؤامرة للإخوان المسلمين, وأنه أعفى عنهم عام 1954 ولكن هذه المرة لن تكون هناك رحمة, وقد صدق, فقد تحول المعتقل بعد هذا التصريح إلى سلخانة بشرية, وفي أبي زعبل رأيت شقيقي الأصغر مع عدد كبير من أصدقائه وهم يجلدون عراة من ملابسهم, وفي أبي زعبل ودعت كل أمل في المستقبل في حين سلمنا ضابط الترحيلات وكان الضابط الذي استلمنا قد دقق في الاستلام وصار يحصي المعتقلين بحرص, فقال له لا تهتم أي عجز في العدد ممكن أن أسدده, كأنما يسلمه قطيعًا من الخراف.
محمود حلمي- معتقل سياسي سابق: أنا اعتقلت يوم الخميس 3 سبتمبر سنة 1965, كنت خارج البيت وجيت الساعة 9.30 لقيت البوليس محاوط البيت بالبنادق وبالعربيات ومأمور المركز واقف على الباب, أول ما وصلت راح ماسكني من أيدي قال لي أنت مين؟ قلت له أنا محمود حلمي.
أحمد رائف: أنت ما كانش عندك فكرة.
محمود حلمي: ما عنديش فكرة عن أي حاجة, فشدني دخلني جوا البيت, فلقيت ضابط المباحث العامة كان اسمه يحيى كامل كان عقيد يحيى كامل ومعه مخبرين أعداد كبيرة بيفتشوا حتى لوح الـ (Design) بتاعتي وكنت في كلية الهندسة أيامها, قلبنها وبيفردوها مش فاهمين فيها حاجة.
إسماعيل صادق- الشقيق الأكبر لمحمود حلمي: عيلة الضابط يحيى كامل كنت بأقول له أنتم جايين تعتقلوا مين؟ عشان يستعد, قال إحنا هنعتقلكوا كلكم, فرتبت نفسي إن إحنا الاثنين هنعتقل, في نفس الوقت وفي النهاية لقيته أخذ محمود حلمي فقط ومشي.
محمود حلمي: وركبنا بقى العربية ومشينا على مباحث أمن الدولة في مدينة أبو زعبل, كتبوا أسامينا وقيدونا وحاجات زي كده وراحوا واخدينا على معتقل أبو زعبل في منطقة سجون أبو زعبل, فتحوا باب ضيق صغير كده, دخلنا منه لقينا مبنى ضخم أربع أدوار وبوابة حديد ضخمة بتاع أربعة متر.
أحمد رائف: أنا شوفتك يوميها، يوميها أنا شوفتك وأنت داخل.
محمود حلمي: آه دخلت بقى لقيت الإخوان المعذبين ومقطعين مرميين في الأرض.
أحمد رائف: وفي يوم من الأيام استدعاني اللواء فؤاد علام وقال لي أنت ماعندكش حاجة تقولها أكثر من اللي أنت قلتها؟ قلت له لا إحنا تحت الأمر إذا كان عندك حاجة تحب أضيفها أنا مش متأخر هو أنا اللي بضيف؟ أنت اللي بتضيف, قال لي طيب أنت دلوقتي هتروح السجن الحربي، أصعب سجن فتنا عليه في حياتنا وأشهر سجن في الشرق الأوسط, حاطين جنب.. مكانه حاجة اسمها المركز الدولي للبولينج، كل المنطقة اللي إحنا شايفنها دي كان فيها السجن الحربي, وكان واخد نصف مساحة بانوراما 6 أكتوبر, وما كانش في مباني من المنشأة الآن اللي قدامنا موجودة, كان الأرض فضاء حتى المترو الخاص بمصر الجديدة، على البوابة نزلونا من السيارة وجيه مندوب المباحث الجنائية العسكرية وقال إيه اللي على عنيهم دا, فقال له الضابط اللي جاي من المباحث العامة قال له والله إحنا نظامنا بنغمي عنيهم عشان مايعرفوش مين اللي بيحقق معهم, قال لا إحنا الكلام دا هنا ماينفعش معانا إحنا هنا بنضرب وبنقتل عيني عينك مابنخفش من حد, شيلوا البتاعة اللي على عنيهم دي، شالوا البتاعة اللي على عنيهم دي.. اللي على عنينا إحنا يعني, ودخلونا مكبلين بالأغلال إلى داخل حرم السجن الحربي, أول ما تخطينا البوابة السوداء كانت بوابة السجن الحربي لونها أسود مدهونة بالقار فلونها أسود ومخيف, ما أن استقر بنا الحال داخل البوابة إلا وفوجئنا بمجموعة من الجنود بكرابيج وضربونا ونحن كومة، كومة من البشر فوق بعض, ونقلونا إلى ما يسمى بالسجن الكبير, وهذا النقل يتم بإهانة شديدة.. يعني عدد من العساكر يجري ورانا ويضربنا بالكرابيج, وكلاب السجن الحربي تجري هي أيضًا معنا وتنهش من تطوله, والأوامر إن كل واحد في المعتقلين إذا قدر يوصل للي معاه يضربه يصفعه على قفاه بيده صفعة قوية, دخلنا السجن الكبير وأيضا وجدنا أن هناك حفل استقبال آخر أشد وأنكى, وأودعونا ما يسمى بمخزن ستة, غرفة موجودة في فناء السجن اسمها مخزن رقم ستة، مخزن رقم ستة ده عبارة عن ناس فوق بعضها والظلام شديد والحر شديد, كنا في شهر سبتمبر والتعليمات من العساكر إن ممنوع الكلام ممنوع حد يطلع أي صوت, واللي يطلع أي صوت سيقتل, وكنا نصدقهم في هذا الكلام, وكانت المكاتب منتشرة في فناء السجن الحربي وكل مكتب فيه واحد ضابط قاعد ومعه فرقة تعذيب, ويتمثل هذا التعذيب في أي حاجة تخطر على البال.. يعني الضرب بالكرابيج, ضرب الرأس في.. يعني مبنى مسلح حتى تتفجر الرأس ويموت الشخص, وهذا لإخافة من يشاهدون, وكان يتم أيضًا خلع الأظافر بالكماشات, ودي تمت مع أربع أشخاص مات منهم اثنين, يمسك الذراع المعتقل ويكسره على حاجة, ودي برضه اتعملت مع اثنين مات واحد, لأن أصيب بصدمة عصبية نتيجة هذه الحادثة, ويجيب مثلا عربية جيب ويمددوا المعتقل ويجي السواق يتظاهر بإنه هيعدي عليه بالعربية ويفرمل عند جسمه وهو ممدد يعني, ومرة من المرات ماعرفش يفرمل وعدى من على المعتقل ومات المعتقل.
[موجز الأنباء]
"
في السجن الحربي من يموت من التعذيب يلف "ببطانية: ويدفن في صحراء مدينة نصر، ويكتب بجانب اسمه في الدفاتر هارب
"
    أحمد رائف
أحمد رائف: وتكلم أحدنا في صوتا ضعيف, يا فندم في واحد ميت وأشار بيده إلى الجثة الهامدة, وارتسمت على وجه الجندي ابتسامة وقحة, واحد فقط يا أولاد الكلب أين نذهب بوجهنا من سيادة العميد, وكان الذي يموت من التعذيب يطفوا النور بالليل ويلفوه في بطانية ويطلع اثنين عساكر بالكوريكات ويبعدوا ثلاثمائة متر، أربعمائة متر، خمسمائة متر لأن كلها صحراء مفتوحة ويحفرون ويوضع المتوفى أو الذي مات من التعذيب في داخل هذه الحفرة وتردم, وكان بيكتب بجانب الذي يموت من التعذيب يكتب جنب أسمه في الدفاتر هارب, وحتى يتم حبك الموضوع لابد من التحقيق مع أهله لعمل محضر وهو مات فعلا من التعذيب ودفن في صحراء مدينة نصر, مرة في شارع عباس العقاد بمدينة نصر عربية نقلت عملت حادثة ففوجئ الناس إن الحمولة بتاعت العربية النقل عبارة عن جماجم وهياكل عظمية, بلغوا السلطات المختصة والتي أوصت بحمل هذه الأشياء ورميها خارج المدينة لأنها كانت من آثار التعذيب في السجن الحربي في سجن عبد الناصر، إحنا رايحين للأستاذ أحمد عادل كمال المؤرخ في التاريخ العسكري الإسلامي ونائب محافظ بنك فيصل السابق، أنا فاكر أول مرة حضرتك جيت فيها السجن الحربي كنت لابس بدله أنيقة جدا وكان تقريبا في شهر سبتمبر أو حاجة زي كده.
أحمد عادل كمال: آه يمكن.
أحمد رائف: تقريبا يعني, وبعدين ثاني يوم أنا كنت في الزنزانة مائتان وعشرة في الدور الثالث.
أحمد عادل كمال: فوق آه.
أحمد رائف: وحضرتك حطوك في الدور الأول تحت, شفتك بقى تاني يوم وأنت بتأخدها زحف من مكان الزنزانة إلى بوابة السجن الكبير ورجليك كلها مغطاة بالشاش لغاية الوسط, ومش قادر تمشي عليهم ثاني يوم على طول.
أحمد عادل كمال- معتقل سياسي سابق: ده كانوا بيشلوني.
أحمد رائف: وكانوا بيعتبروك يعني عظة.
أحمد عادل كمال: عبرة للآخرين.
أحمد رائف: وعبرة للآخرين اللي مش عاوز يتكلم هيبقى زي ده.
أحمد عادل كمال: أيوه ده واحد بعد كده أنا لا أتذكره دلوقتي بعد ما خرجنا قال لي أنت السبب إن أتحكم علي بثلاثة سنين, قلت له ليه أنا السبب؟ وأنت مين؟ يعني ده أنا حتى ما أعرفكش, قال لي أول ما جيت دخلوني عليك, قالوا لي تحب تبقى زي ده ولا تتكلم؟ قلت لا أقول اللي أنتم عوزينه, كده على طول اللي هم عوزينه قالوا ومضى عليه واخدت فيه ثلاثية سنين.
أحمد رائف: أزيك يا أستاذ فريد.
فريد عبد الخالق: أزيك أنت.
أحمد رائف: أقلقتك؟
فريد عبد الخالق: لا.
أحمد رائف: ده شريف ابن..
فريد عبد الخالق- كاتب ومفكر/ جماعة الإخوان المسلمين: ما شاء الله أهلا, بيقولوا هذا الشبل من ذاك الأسد.
أحمد رائف: أستاذ فريد من المفكرين العظام عند جماعة الإخوان المسلمين, وتمتعت بصحبته سبعة سنوات, وتجولنا في معتقلات مختلفة الحربي، القلعة، أبو زعبل، طره.
فريد عبد الخالق: أنا عرفت الاعتقال في البوابة السوداء ولم تكن سوداء كانت رمادية فقط أيام العهد الملكي, فأنا دخلت السجن واعتقلت في أيام العهد الملكي المدني قبل ما.. تمهيدا للعهد العسكري الجمهوري الذي سيأتي بعد ولم نكن نعلم لأنه كان في الغيب, أنا كنت بأشوف وإحنا طالعين منا المسن ومنا المريض ومنا من غير ذلك, فكان يعني يتعاقبون علينا بالعساكر على مطلع السلم أوله بالضرب ده باليمين وده باليسار الكرباج طيب وليه إحنا رايحين الزنازين ليه ما إحنا رايحين المقابر رايحين للقيود.
أحمد رائف: طيب ليه مافكرتش حضرتك ليه؟
فريد عبد الخالق: ليه دي هي شوف.. هو مردها علشان كلمة واحدة طغيان الحاكم.
أحمد رائف: كان فيه غرفة كده اسمها التصوير, وكانت مشهورة بين المعتقلين واللي كل واحد يسأل زميله يقوله هو فيه ضرب في التصوير ولا مافيش لأنه كل مكان بنروحه داخل السجن فيه ضرب, فرُحت للمقابلة التليفزيونية اللي كان بيجريها الأستاذ حمدي قنديل التليفزيوني المعروف ولاقى جرح كبير في وجهي وأثار دماء فنهرني وسبني وطردني وقالوا ازاي تجيبوا واحد متعور نصوره, وأنا ما روحتش ولا حاجة ده واحد أخذني وداني لأن إحنا مالناش إرادة داخل السجن الحربي، النيابة كانت عبارة عن خيام كل خيمة فيها رئيس نيابة وسكرتير النيابة ويستقبل متهم من المتهمين للتحقيق معه, وشكله ودي جدا وبشوش وغير التحقيقات اللي سبقت, فده شجعني وقلت له والله يا أستاذ أنا عايز أقولك على حاجة, قالي هتقولي أن مش ده, الاعتراف اللي أنت كاتبه ده كتبته تحت الضغط والضرب والحاجات دي, قلت له آه, قالي بص أنا هجيب لك من الآخر خالص لو أنت قلت كده بحولك ثاني للتحقيق, يقوم يحصل تعذيب ثاني وضرب ثاني وتيجي تقولي في الآخر ايوه الإقرار اللي أنا كاتبه ده أو الاعتراف اللي أنا كاتبه، كاتبه بمحض إرادتي لازم تقول العبارة دي ,إذا ما قلتهاش هاتروح تعذيب ثاني وترجع لغاية لما تقولها, فأنت وفر على نفسك وقولها من دلوقتي, قلت له ماشي هقولها من دلوقتي, تم تشكيل عدة محاكم عسكرية لمحاكمة المتهمين في قضية قلب نظام الحكم سنة 1965, كانت أشهر الدوائر دائرة الديجوي، محمد فؤاد الديجوي وكانت محكمته هزلية جدا مافيهاش مراعاة لا للقانون ولا للدستور ولا لأي حاجة يعني يحكم زي ما هو عايز حتى الإجراءات اللي هي المفروض يتبعها في سير هذه المحاكمات لم يكن يلتزم بها, وكان فيه دائرة ثانية كان رئيسها الفريق علي جمال الدين محمود الرجل ده حضر جلسة واحدة للمحكمة بتاعته وقام له واحد معتقل اسمه محمد عبد الظاهر وخلع ملابسه ووراله له ظهره، ظهره متقطع من الكرابيج, وقاله أن إحنا أتعذبنا تعذيب شديد واعترفنا بأشياء لم نفعلها, الرجل تأثر جدا جدا جدا وقاله البس هدومك, وادى أوامر بعدم الضرب أو التعذيب في السجن الحربي, طبعًا أوامر لن تعدو أو لن تتجاوز المكان اللي هو قاعد فيه, وأجل القضية لموعد آخر وهو مات في الفترة دي, وقيلت بعض الشائعات حول موته أن الذين قدموا للمحاكمة سبعة وخمسين واحد, من أصل عدد معتقلين ثمانية وثلاثين ألف, يعني حتى لو اعتبرنا أن السبعة وخمسين واحد دول مخالفين تماما وكانوا عايزين يعملوا انقلاب فعلا وده يعني مش وارد عقلا إلا أن النسبة والتناسب يعني سبعة وخمسين واحد عملوا تنظيم لقلب نظام الحكم تقوم تعتقل جنبهم أطرح سبعة وخمسين من ثمانية وثلاثين ألف وتعذبهم شهور طويلة وتقتل منهم ناس تحت التعذيب وفي الأخر تقدم للمحكمة سبعة وخمسين شخص تقول هما دول المتهمين بعمل انقلاب.. انقلاب يحصل فيه قتل لرئيس الجمهورية وقتل لنائب رئيس الجمهورية وتدمير المنشئات ولمحطات الكهرباء وكلهم سبعة وخمسين واحد وكلهم من أعلى طبقة في التعليم في مصر, عندما يصبح القاضي سفاحًا قاتلا, وعندما ترى نفسك وقد اضطرت للوقوف أمام جلاد ترتضي حكمه فيك لك أو عليك حسبما يرى أو حسبما ما يكون عليه مزاجه, فالحسرة عند ذاك عظيمة وألم النفس بالغ وهوانها عليك وعليهم أبعد أثرًا وأكثر حدة, وهي لحظات تبحث الذات فيها عن الإيمان في أعماقها وهو الملاذ والمعين في عالم قد فقد شكله ومعناه, وغاية ما يفعله الإيمان في لحظة من تلك اللحظات أن يحمي النفس من الدمار والضياع والتمزق, كنا نود أن نخرج من هذا المكان إلى أي مكان آخر وكثير منا حسد الذي أخذوا أحكام وذهبوا إلى اللومان, يعني كان كل واحد يتمنى لو يأخذ حكم أشغال شاقة مؤبدة علشان يغادر السجن الحربي ويروح يكسر حجر في لومان طره, كان أمنية كل معتقل في ذلك الوقت تتمثل في المغادرة بأي شكل من الأشكال كانت, وده بيفكرني بأيام التعذيب لما كان الواحد يموت من التعذيب ما كانش حد من المعتقلين يزعل عشانه بالعكس كانوا بيشعروا نحوه بشيء من الحسد إن ده غادر المكان ومات شهيد من التعذيب, فلما رحنا معتقل أبو زعبل السياسي فوجئنا بصدمة جديدة, اللي هي صدمة المعاملة شبه الآدمية.. يعني أول ما دخلنا المعتقل إحنا طبعًا بنتصرف زي مجموعة من المخلوقات الفارة تتجمع جنب بعضها ماتبعدش عن بعضها تخاف أنها تشذ عن المكان اللي قالوا لها أقعدي فيه, فمشيت كده شوية ابتعدت عن المكان اللي قعدوني فيه ففوجئت أن عسكري بينده لي, بيقول لي تعالى يا أستاذ, طبعًا ما ردتش عليه لغاية لما جه لغاية عندي وخبط على كتفي, قال لي أنت يا أستاذ أنت مش سامعني, قلت له أنت بتكلمني أنا, قال لي أه تعالى هنا لو سمحت أقعد مع دول, لو سمحت أقعد مع دول, فبقيت قاعد مدهوش جدا وحاسس بأن شيء غريب بيحدث, ده هما دول بيمثلوا ولا كلام جد ولا إيه بالضبط, ابتدوا يدوا تعليمات أن كل الناس تعقد بالليل بعد الساعة سابعة وكل واحد يتكلم عن حياته قبل الثورة وحياته بعد الثورة, ويبين في حدود مهنته إن الثورة أحسنت إلى هذه المهنة ويدلل على ذلك, الطبيب يتكلم عن الطب قبل الثورة والطب بعد الثورة وإزاي إن الثورة جت حسنت الطب وخلته كويس جدا, المهندس يقول نفس الكلام كل صاحب مهنة يتكلم في هذه الموضوع, وهناك رقباء على هذا الكلام وينقلون تقارير شفوية وكتابية إلى إدارة المعتقل إن فلان تكلم, فلان لم يتكلم, فلان تكلم بحماس, فلان لم يتكلم بحماس كافي, ومن الطرائف.. يعني في واحد هجيب اسمه حالا من الكتاب اسمه.. يعني إذا لم تخنني الذاكرة اسمه الأستاذ محمد المخ هذا الرجل كان رجل أمي مش متعلم وكان شخصية واعية وعنده وعي بالسياسة وفي تقديري وعيه السياسي أكثر من جمال عبد الناصر, لأنه كان فاهم السياسة ماشية إزاي والدنيا ماشية إزاي إنما إيه.. مش عارف أجيب لك.. دلوقتي أشوفهولك وأجيبه لك يعني، يعني هو للأسف إنه هذا الرجل لما جه اليوم اللي يتكلم فيه عن الحياة قبل الثورة والحياة بعد الثورة في تخصصه وإزاي إن الحياة بعد الثورة اختلفت وتحسنت الراجل وقف وقال يا جماعة أنا طول عمري مسجون ما أعرفش حياة غير السجن, فواحد ظريف قال له طيب قل لنا عن السجون قبل الثورة والسجون بعد الثورة, قال أنا ما اتسجنتش إلا في عهد الثورة ولم أخرج منها حتى الآن, وتفننت العنابر إحنا قلنا في 24 عنبر صبيحة يوم التوعية لازم ينزلوا يقعدوا يأخذوا مكنهم اللي حددوه أو اللي حددته إدارة المعتقل علشان يجلس فيه العنبر دا يعني, فكل عنبر يألف هتافات يألف أناشيد كلها تمجد في جمال عبد الناصر وفي الثورة وتنعي على الإخوان عدم إنها عدم سيرها في ركاب جمال عبد لناصر والثورة, كان في هتافات يألفوها ويخلوا واحد يقوم يهتف وعلى جميع المعتقلين أن يرددوا الهتاف بحمية وبحماس وبسعادة أيضا يعني مما أذكره من الهتافات اللي كانت بتتقال في ذلك الوقت مثلا إيه، يقول لك إيه: لا رجعية ولا إخوان ولا تجارة بالأديان، واحد يهتف يقول كده والباقي يرد عليه.. حاسبوا.. على التضليل وانسوا ماضينا في الإخوان, حسن البنا وحسن الثاني سلكوا طريق ضد الأديان, حسن البنا معروف وحسن الثاني اللي هو حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمين, فإحنا عنبر خمسة دا كان فيه ناس من الإخوان القدامى وناس محترمين جدا ولا يقبلون هذا الكلام ورغم ذلك كان هناك تحضير لبعض هتافات وبعض أناشيد, وفوجئنا كان معانا واحد المرحوم أحمد قتا ده راجل سمين جدا حجمه كبير ضخم وكان رجل من الناس المجاهدين في فلسطين وكان من رعيل الإخوان المسلمين الأول, فجاءة فوجئنا به يقول لنا شيلوني أحملوني فقلنا عم أحمد قتا هيقول إيه بس في المدلهمة اللي إحنا فيها دي, المهم في حماس شديد طلب إن إحنا نرفعه رفعناه وهو يهتف وإحنا نرد وراه عنبر خمسة وإحنا نرد وراه عنبر خمسة يغير النغمة يقول خمسة.. خمسة يحيا خمسة.. عنبر خمسة, قعد يعمل تقاسيم وتشكيلات لهذه الجملة وهذا الهتاف ونحن نرد عليه بما يقول حتى إنتهي بنا المطاف إلى المكان الذي حُدد لنا لسماع التوعية, وتخلص الرجل من أي كلمة فيها شتم للإخوان أو أي كلمة فيها مدح لجمال عبد الناصر, أما سمحوا بالإذاعة المصرية أنها تذيع داخل المعتقل عرفنا أن في أمر جلل حصل في البلد, إيه الأمر الجلل الكلام ده كان يوم 14 مايو 1967؟ الرئيس جمال عبد الناصر أغلق خليج العقبة ضد الملاحة الإسرائيلية فيه.




أحمد عادل كمال: كان حصل إيه يا ربي قبل كده اتفاقية بين مصر أو هدنة بين مصر وإسرائيل ولم يُعلَن في مصر إن إسرائيل خدت حق المرور في شرم الشيخ, ده كان..
أحمد رائف: كان سنة 1956 بعد خروج اليهود من سيناء كانوا بالشرط ده.
أحمد عادل كمال: أيوه.. بالشرط ده بالضبط, ولم يعلن هذا الشرط.
أحمد رائف: ولم يعلن هذا الشرط.
أحمد عادل كمال: داخل مصر.
أحمد رائف: نعم.
أحمد عادل كمال: جم بقه في مرة وأعلن جمال عبد الناصر في خطبة من خطبه أنه قفل مضايق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية, طيب ده قرار خطير يعني إسرائيل نصين نص على البحر الأبيض وميناء على البحر الأحمر على خليج العقبة ومنه رايحة جاية في العالم كله وخصوصا خط الشرق ده, فقرار بالشكل ده كان من شأنه أنه لازم تحصل حرب.
"
الجميع كتب تأييدات لجمال عبد الناصر إلا 31 شخص، فتم عزلهم في زنازين تقع شمال المعتقل تحت الأرض وسمعنا أنه حدد لهم تاريخ خمسة يونيو 1967 لإعدامهم
"
      أحمد رائف
أحمد رائف: وانبرى بعض المدربين يطلبون كتابة تأييدات للرئيس جمال عبد الناصر, وكالعادة كتب الجميع هذه التأييدات باستثناء واحد وثلاثين شخص رفضوا كتابة هذه التأييدات, فعزلوهم فيما يسمى زنازين شمال اللي هي الزنازين التي تقع على شمال المعتقل تحت الأرض, وسمعنا أن هناك محاكمة ستتم لهم وسيحكم عليهم بالإعدام وسينفذ أمام المعتقلين, وسمعنا أيضا أن هذا الموعد قد حدد له خمسة يونيو 1967.
محمود حلمي: كانت عملية هزيلة كانوا طالبين تأييد بالدم من المعتقلين للرئيس جمال عبد الناصر والحرب دي وإحنا نعلم أن الحرب كانت حرب كدابة.. يعني حرب صورية مهياش حرب حقيقية مع إسرائيل فما حبناش يعني نضحك على نفسنا أكثر من اللي إحنا فيه.. يعني فرفضنا الواحد وثلاثين واحد رفضوا عملية تأييد جمال عبد الناصر في هذه الحرب.
أحمد رائف: عرفنا أنهم اعتقلوا جميع اللي لهم أي دوسيه أو ملف في أمن الدولة, وهما أما كانوا يغلبوا في تقييم واحد أو زي ما تقول تسكينه أو وضعه تحت طائفة أو عنوان, يعني فيه إخوان مسلمين فيه شيوعيين, أما يجي واحد كده ضد الحكومة ومش عارفين له هوية يسموه النشاط المُعادي, وكان الإجراء أن يَرفع المعتقل الجديد رجليه في الفلقة ويُمد عليها حيث الضرب الموجع بالهراوة وعليه أن يهتف أثناء العلقة يعيش الرئيس جمال عبد الناصر, ورفض واحد من جماعة شهود يهوى أن يهتف هذا الهتاف وصار يردد المجد لله في الأعالي وعلى الدنيا السلام وبالناس المسرة.
فريد عبد الخالق: التعذيب اللي شوفته أنا كمان المهم النفسي إن أنا فقدت أبواي يعني أبويا وأمي هما ماتا وأنا في السجن واستأذنت إن أنا أحضر.. يعني دفنهم أو العزاء رُفض, فيعني من الأشياء اللي في نفسي أن أنا لم أرهما وقد رحلا إلى ربهما وربنا يلحقنا بهم في الصالحين.
محمود حلمي: الوالدة جت لنا مرتين, مرة في سجن أبو زعبل وطبعًا.. يعني كان لقاء عاصف لأن إحنا أتأثرنا جدًا وهي أتأثرت جدا لأنها كانت متوقعة متشوفناش فعلا ثاني وبقت سعيدة جدا أنها شافتنا وقعدت تتكلم معانا, واللقاء الثاني كان في طره جت هي والدكتور إبراهيم طاهر وبنت خالتي وبعديها مجتش ثاني لأنها توفيت بعديها.
أحمد رائف: فكان يعني ذكرى زيارتها بعد ما عرفنا بوفاتها كانت ذكرى مؤثرة جدًا.
محمود حلمي: أيامها جمال عبد الناصر كان خطب خطبة وأذيعت علينا في المعتقل.
أحمد رائف: مضبوط آه.
محمود حلمي: قال أنا عندي خمسمائة وخمسين من رؤساء التنظيمات ودول مش خارجين أبدًا..
أحمد رائف[مقاطعًا]: طول ما أنا عايش.
محمود حلمي[متابعًا]: طول ما أنا عايش, وأخذ من مجلس الشعب أو مجلس الأمة أيامها وثيقة بأنه يعتقل مدى الحياة كل من هو خطير على الأمن من وجهة نظرهم, وكنا إحنا خطيرين على الأمن من وجهة نظرهم.
أحمد رائف: طيب أنت جاء لك الأمل أنك هيفرج عنك أمتى؟
محمود حلمي: يوم ما مات جمال عبد الناصر, وليلتها جاب بطانية من جوه وجاب علب السجاير وعلبة جبنه وعيش يعني حاجة كانت هستيرية بقه والهدوم والبتاع وربطتها وشلتها على كتفي.
أحمد عادل كمال: وحلاوة ومش عارف إيه دول نفعوا في أول يوم وماكنش في أكل وكده.
محمود حلمي: أول يوم لقيت ضياء طوبجي بقه مضروب ومحمود حامد.
أحمد رائف: تعبان قوي.
محمود حلمي: آه تعبان قوي أديتهم بقه بسكويت بقوا عمالين يكلوا.
أحمد رائف: ماكنش في أكل خالص أه.
محمود حلمي: آه بجنون إيه ده جاي منين ده.
أحمد رائف: وهم ماشفوهش عارف لو شافوه كانوا حاشوه, ما أخذوش بالهم يعني.
محمود حلمي: لا أنا داخل بالبؤجة معايا ماكنش مهتمين بينا أصل إحنا دخلنا الساعة 6 الصبح ما كنش في لا ساعتها..
أحمد رائف: تفتيش ولا كلام.
محمود حلمي: تفتيش ولا..
أحمد عادل كمال: أديت له أقراص نوفالجين كمان.
محمود حلمي: آه وبعدين بصيت فوق لقيت مراد عمال يبدل الراجل..
أحمد رائف: وبيمشي على أيديه ورجليه..
محمود حلمي: لا بينام على ظهره ويقعد يبدل برجليه الراجل اللي هو..
أحمد رائف: اسمه افتكرت أسمه.
محمود حلمي: اسمه أبن الحوكة.
أحمد رائف: اسمه..
محمود حلمي: كان شاويش حوكة.
أحمد رائف: اسمه نسيت اسمه, دلوقتي راح عن بالي.. يعني أه.. أسمه إيه.. نسيت أسمه.
محمود حلمي: ولقي مراد وهو قاعد يأكل فبيقشر الفول عشان القشر..
أحمد رائف: بيتعب بطنه.
محمود حلمي: بيتعب القولون, قال له أنت بتقشر الفول؟ قال له أه, قال له كل القشر قدامي قبل ما أمشي.
أحمد عادل كمال: مين اللي قال له كده بقه؟
محمود حلمي: الشاويش, قال له يا أفندي مفيش داعي, قال له مش هأمشي إلا ما تأكل القشر كله بتاعك, فطلع القشر من الأرض وراح بلعه.
أحمد رائف: غادرت المعتقل بعد عدة شهور من موت الزعيم, وبعد أن سمعت قائد المعتقل يسب الزعيم ويصفه بوضاعة الأصل وأنه ضيع الوطن وسرق الثورة من السلطان العظيم أنور السادات القائد الحقيقي للثورة المباركة, ولكن الله يمهل ولا يهمل, وتسير الأمور بنا وبالناس من المجهول إلى المجهول, ورحى الإسلام دائرة وافترق الكتاب والسلطان, والعاقل من دار مع الكتاب حيث دار والدنيا سوق كبير ينفض بالموت والربح والخسارة لا رجعة فيهما بعده ولا فوت, والحمد لله من قبل ومن بعد.

المصدر: الجزيرة

Wednesday, March 7, 2012

الفرق بين الجيش المصري الحديث والجيوش الكبرى




الفرق بين الجيش المصري الحديث  والجيوش الكبرى ،أن الجيوش الكبرى تخدم مصالح الدولة على المدى  البعيد .انما  الجيش المصري فتاريخه  حافل  بنظرته  للحرب  على  انها  مجرد" خناقه في  حارة "  والمهم إن أهل الحاره  يفتخروا بسليمان الناجي  أسم الله  عليه  أسم الله عليه  وهو راجع من الخناقه  . 

Tuesday, March 6, 2012

منارات الحكمة العربية - يوسف زيدان



قبل أيام قليلة، اقترحتُ على القراء والأصدقاء أن نعلن العام 2012، الذى تبدأ الآن أيامه، عاماً للمعرفة. كتبتُ على صفحتى الشخصية بالفيس بوك وصفحات الأصدقاء المرتبطة بها «مجموع المتفاعلين عبر هذه الصفحات يصل لقرابة الثلاثين ألفاً من المشاركين النشطين» ما نصُّه: «سؤال للأصدقاء جميعهم: ما رأيكم فى أن نعلن العام الذى يدق أبوابنا (2012) عاماً للمعرفة، وأن نحتشد فيه بفعاليات كثيرة تحتفى بالمعرفة التى صرنا نفتقدها، قبل أن نفقدها؟»
وبعد دقائق معدودات بلغت الاستجابات المئات، ما بين مستحسن للفكرة ومؤيِّدٍ لها بشدة أو ممتدح. وبطبيعة الحال «الثورى» الذى نعيشه حالياً، فإن التعليقات لم تخل من رافضين للفكرة، وناقمين على المقترح. وما ذاك إلا لأنهم، فى واقع الأمر، ناقمون على واقعنا كله، وميَّالون للتبرم والرفض لكل قولٍ أو فعلٍ أو فكرة، لكثرة الإحباطات التى يعانون منها بعد خمود الوهج الثورى. ولعلهم فى ذلك معذورون، ومحزونون، لأن «مشعلى الحرائق» المضادة لنتائج الثورة أجهضوا أحلامهم!.. المهم، كانت الأولى من بين هؤلاء الرافضين فتاة أو امرأة «بالمناسبة، فى فصيح اللغة ولغة القرآن يقال للفتاة: امرأة» كتبت تعليقاً بالعامية يقول: حال المعرفة زى الزفت..
ثم ألحقت ذلك بعبارة أخرى تشير إلى أن أربعين بالمائة من المصريين أميون، لا يقرأون ولا يكتبون، والتعليم فى مصر منهار منذ سنين. فما معنى الدعوة لعام المعرفة فى مجتمع كهذا؟ رددتُ عليها بما ملخصه أن «الزفت» مفيدٌ فى رصف الطرق، ونحن ننشد الآن طريقاً نحو المستقبل. وانتشارُ الأمية بين المصريين لا يقدح فى أهمية الدعوة إلى «عام المعرفة» بل على العكس من ذلك، يدعونا إلى الاهتمام بهذا الأمر أكثر، كيلا يزداد الأميون أميةً وعدداً فتزيد أحوالنا سوءاً وتدهوراً.
بقية المعترضين على الدعوة «لا يزيد عددهم على أصابع يدٍ واحدة» قالوا ما مفاده إننا نمر اليوم فى مصر، وفى المنطقة العربية عموماً، بفترةٍ حرجة لا تجعل من «المعرفة» مطلباً مهماً وحيوياً، والأهم لنا الآن هو الانشغال بالواقع السياسى المضطرب، والأحوال العامة المتدهورة .. فتذكرتُ ابن النفيس.
■ ■ ■
عاش علاء الدين ابن النفيس بمصر «وكان رئيس أطباء مصر والشام» فى زمنٍ يعدُّ ما نعيشه اليوم «نعيماً مقيماً» بالمقارنة به، بل لا يوجد أصلاً وجه للمقارنة.. فقد عاصر ابن النفيس زمناً مصرياً هصوراً، تقلَّبت فيه الكوارثُ الكبرى وعاثت فى البلاد المفاسدُ وتعاقبت الويلاتُ. كان مولد «ابن النفيس» فى قرية قرب دمشق، اسمها «القرش» سنة 607 هجرية، ودفعه سوء الأحوال بالشام إلى النـزوح نحو مصر «القاهرة» التى وصلها وهو فى العشرينيات من عمره، وظل مقيماً بها من دون أن يفارقها من بعد ذلك قَطّ، حتى توفى بالقاهرة وقد بلغ الثمانين من عمره، سنة 687 هجرية «1122ميلادية».
عاصر العلاء ابن النفيس أحداثاً جساماً، ففى زمانه مرت بمصر أهوالٌ منها الاجتياحُ المغولى للمشرق الإسلامى، وسقوط بغداد على أيديهم وهجماتهم الهمجية «سنة 656 هجرية» ثم اجتياحهم الشام وتخريبهم لها، حتى وقفوا عند حدود مصر وتفرَّق غزلهم بسبب الانقسامات الداخلية، فانهزمت مؤخرة جيشهم فى «عين جالوت»، وصاروا فلولاً هاربة إلى المشرق الذى جاءوا منه قبلها بستين سنةً دامية. ومنها الصراعُ المرير على الحكم، وقتل المماليك الحاكمين مصر بعضهم بعضاً، فمن مصرع «عز الدين أيبك» إلى الفتك بشجرة الدر، ثم تشفِّى ضُرّتها «أم على» فى مقتلها بتوزيع الوجبة التى لاتزال إلى اليوم معروفة باسمها «وقد أعدتها على عجلٍ حين وصلها خبر قتل شجرة الدر» ثم الأذى المفرط بتاريخنا السياسى على يد «قطز» الذى أقرَّ لأول مرة القاعدة الرهيبة التى ظل العسكريون يطبقونها لعدة قرون تالية، وهى قاعدة «الحكم لمن غلب» وقد اكتوى هو بنارها حين غدر به جماعةٌ من أصحابه، كان منهم «بيبرس» العنيف المهووس الذى حكم البلاد لأنه «غلب» وانتـزع السلطة انتـزاعاً.
وبالمناسبة، فقد قدم لنا ابن النفيس، بشكل غير مباشر، صورةً دقيقةً لملامح بيبرس وأخلاقه واضطراباته النفسية، فى رسالةٍ قصصيةٍ بعنوان «فاضل بن ناطق» عارض بها ابن النفيس الرسالة القصصية «حىّ بن يقظان» لابن سينا، وليست هناك أى شكوك فيما أورده ابن النفيس عن «بيبرس» مع أنه لم يصرِّح باسمه، نظراً للصلة التى جمعت بينهما؛ فقد كان ابن النفيس هو طبيبه الخاص.
ومن الويلات التى عاصرها ابن النفيس: الحملاتُ الصليبية المتكررة على سواحل الشام وشمال دلتا النيل، واحتلالهم دمياط.. ومنها خروج ملوك النوبة على سلطان القاهرة واضطراب الأحوال بسبب الحرب «الانفصالية» فى جنوب الوادى.. والمجاعات والطواعين التى فتكت بأهل مصر حتى أكلوا القطط والكلاب وجثث الموتى ولحوم البشر الأحياء.. والغلاء الفاحش.. والفوضى الأمنية وانتشار البلطجية والشطَّار والعيَّارين «الصيَّع والحرامية».. إلخ.
***
وعلى الرغم من هذه الأهوال والويلات التى عصفت بمصر آنذاك، لعشراتٍ من السنين، فقد عكف العلاء ابن النفيس على هدفٍ وحيدٍ لحياته كلها، هو «المعرفة». وعاش حياته مخلصاً لرسالته المعرفية، ومستمسكاً بالبحث العلمى والتأليف الابتكارى، ومؤمناً بأن أعماله سوف تبقى من بعده لأمدٍ طويل.. حتى إن المؤرخين تناقلوا عبارةً خطيرةً له، يقول فيها: لو لم أعلم أن تصانيفى «مؤلفاتى» تبقى بعدى عشرة آلاف سنة، ما وضعتها.
وقد فتشت عن هذه العبارة فى آلاف الصفحات التى كتبها ابن النفيس «أغلبها مخطوطات لم تُنشر» فلم أجدها. فالظاهر أنه صرَّح بذلك شفاهةً لبعض المقرَّبين منه، فى غمرة النشوة المعرفية وتوهُّج العبقرية.. فبأىِّ معنى كان ابن النفيس عبقرياً؟ إذا سألت اليوم أحد المتعلمين عن هذا العلاَّمة المنسىّ، فقد يقول على الفور ما معناه: نعم، هو مكتشف الدورة الدموية قبل هارفى «ثم يصمت» وقد لا يقول أىَّ شىء، لأنه لا يعرف عن الرجل غير اسمه. وقد نسأل أحد المثقفين، فيقول بإيجاز ما مفاده: نعم، هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى قبل «هارفى» بقرابة قرنين من الزمان «ثم يصمت» وقد يزيد على ذلك بعض المعلومات السطحية عن العلاء ابن النفيس.
وفى واقع الأمر، فإن فكرة دوران الدم فى الجسم هى فى الأساس اكتشافٌ سكندرىٌّ قديمٌ يعود الفضل فيه إلى «هيروفيلوس» الذى ذكر فى كتاباته أن الدم يدور فى العروق، لكنه لم يوضح كيفية هذه الدورة. حتى جاء العلاء ابن النفيس وشرح هذه الكيفية، مسجِّلاً اكتشافه فى كتابٍ مدرسىٍّ له «كان يقرِّره على تلامذته بالقاهرة» عنوانه: شرح تشريح القانون.. أى شرح الأجزاء المتعلقة بالتشريح من كتاب ابن سينا «القانون فى الطب»، فأوضح فيه أن الدم يدور بين القلب والرئة، كى يحمل إلى الجسم الطاقة التى يسميها «الأرواح» أو «القوى»، مشيراً بوضوح إلى أن مقصوده بها ليس «الروح» بالمعنى الدينى، وإنما الطاقة الحسية اللازمة لتسيير الجسم «وهو ما نعرفه اليوم بالأوكسجين».
وفى موسوعته الهائلة «الشامل فى الصناعة الطبية» يشرح ابن النفيس دورة الدم الكاملة فى الجسم، أى الدورة الصغرى «الرئوية»، والدورة الكبرى الموصلة بين القلب والأطراف.. ومع ذلك، فإننى أعتبر اكتشاف ابن النفيس لهاتين الدورتين «على الرغم من أهميته» هو أحد الدلائل المتواضعة على عبقرية «العلاء» العلمية، فقد كان هذا العلامة عبقرياً ومبدعاً، ليس فقط لاكتشافاته العلمية التى يفوق بعضها «الدورة الدموية» أهميةً، وإنما للمنهجية البديعة التى كان يلتزم بها، ويشير كثيراً إليها فى أثناء مؤلفاته. كأن يقول مثلاً تلك العبارة البديعة التى بدأتُ بها روايتى الجديدة «محال» وقد رأيتها أول مرة فى مخطوطة كتابه الخطير «المختصر فى أصول علم الحديث النبوى» حيث كتب: وأما الأخبار التى بأيدينا الآن، فإنما نتَّبعُ فيها غالبَ الظن لا العلمَ المحقَّق ، خلافاً لقومٍ .. «يقصد: مخالفةً لما قد يعتقده كثيرون».
ومن بدائع العلاء المنهجية، تلك القاعدة الذهبية التى لا أَمَلُّ ذِكْرها والتذكير بها، لإعجابى المفرط بمعانيها وصياغتها. يقول العلاء ابن النفيس: وربما أوجب استقصاؤنا النظر عدولاً عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلافُ ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيشٌ، فرُبَّ شَنِعٍ «غريب» حقٌّ، ومألوفٍ محمودٍ كاذبٌ، والحقُّ حقٌّ فى نفسه، لا لقول الناس له، ولنذكر دوماً قولهم «إذا تساوتِ الأذهانُ والهمم، فمتأخرُ كُلِّ صناعةٍ خيرٌ من متقدمها».. سؤال: لماذا لا نقرِّر هذه العبارة على الطلاب فى مدارسنا؟
وبالإضافة إلى هذه «المنهجية العامة» المتعلقة بطريقة التفكير الإنسانى «الكلى» أكد العلاء على مجموعة من القواعد المنهجية التطبيقية، منها ما يتعلق بالممارسة الطبية، حيث اعتمد على التدرُّج الوارد فى قوله: «ينبغى ألا تعوِّد الطبيعة (قوى الجسم) الكسل، بأن تعالج كل انحرافٍ عن حال الصحة؛ وحيث يمكن العلاج بالأغذية، فلا تلجأ للأدوية. وإنّا لا نؤثر على الدواء المفرد، دواءً مركباً، لكنّا قد نُضطر إلى التركيب».. وكان من قواعده المنهجية، ما يتعلق بضبط المفردات والاصطلاحات قبل البحث، على النحو الذى تناولته تفصيلاً فى كتابى الذى صدر قبل خمسة عشر عاماً ولم يلق من القراء اهتماماً مناسباً، وكان عنوانه «إعادة اكتشاف ابن النفيس» وفيه أعدت النظر فى كثير من المعلومات الخاطئة التى طالما ردَّدها المؤرِّخون والباحثون عن «ابن النفيس»، بما فى ذلك هذا اللقب ذاته، الذى رجَّحتُ أنه اشتهر بطريق الخطأ والخلط بين «علاء الدين علىّ، رئيس أطباء مصر والشام» ومعاصره «علاء الدين علىّ بن النفيس البغدادى، الطبيب»..
ويلحق بذلك ما اشتهر من أن «العلاء» الذى نتحدث عنه هنا، عاش حياته أعزب ومتفرغاً عن الزواج للعلم. وهذا خطأ، فقد وجدته يذكر فى مخطوطة له عنوانها «شرح كليات القانون» ابناً له، أشار إليه عَرَضاً فى معرض كلامه عن ابتداء عمل الحواس الخمس عند المواليد «حديثى الولادة» إذ يقول: «وهذا ولدى محمد، فى زمن طفولته، كان قد ارتضع من أمه عقيب أكلها بصلةً، فنفر منها؛ فعرفتُ أنه أدرك رائحة البصل..».
■ ■ ■
إذن، لم يتوقَّف العلاء الذى نعرفه بلقب «ابن النفيس» عن العمل المعرفى، بسبب تدهور الواقع المصرى والاضطرابات الكثيرة التى عانى منها فى زمانه.. فمهما كان، فإن «المجلس العسكرى» اليوم هو أرحم بكثير من عنت «المماليك» الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك «وهذا ليس مدحاً فى المجلس المعاصر» ومهما كان من الغلاء الذى نعانى اليوم منه، وسوف نعانى من ازدياده فى الفترة القادمة، فإنه لا يقارن بالقحط والمجاعات والأوبئة التى اجتاحت مصر فى زمن العلاء «وهذا ليس تهويناً من شأن الأزمة الاقتصادية الحالية» ومهما كان من اضطراب الواقع السياسى المعاصر بمصر، وما يسمى اليوم باجتياح الإسلاميين لصناديق الانتخابات؛ فإنه لا يُقارن بفوضى السلطة السياسية فى زمن العلامة المشهور بابن النفيس «وهذا لا يعنى التقليل من آثار اللعب السياسى المعاصر بورقة الدين» ومهما كان مما يسمى اليوم الأجندات الخارجية وعمليات التمويل الأجنبى لإفساد الأحوال المصرية، فهو أمرٌ يهون كثيراً بجانب الاقتحامات المغولية والصليبية لأنحاء البلاد «وهذا ليس تقليلاً من خطورة التدخلات الخارجية المعاصرة» ومهما كان من الأسى العام على دماء الشباب المصرى السيَّالة فى الشوارع، وعيونهم التى تُفقأ بالطلقات؛ فلا وجه للمقارنة بينها وبين المذابح التى كانت تجرى على أرضنا آنذاك.. إلخ. ومع ذلك، فإن هذه الأهوال جميعها لم تمنع العلاء «ابن النفيس» عن العمل المعرفى، وبالتالى فإن ما نعانيه اليوم وهو الأقل منها بكثير، لا يجب أن يعوقنا عن رفع راية «المعرفة» والعمل العلمى.
 بعبارة جامعة: علينا أن نسير على خطى ابن النفيس، بلا اعتبارٍ للحجة التى يسوقها البعض منا اليوم، زاعماً أن الاهتمام بالواقع السياسى المضطرب مرحلياً أولى بالاهتمام من العمل المعرفى والإبداعى.
■ ■ ■
وحسبما ذكرت فيما سبق، فإننى أنظر لاكتشاف العلاء «ابن النفيس» للدورة الدموية، على أنه مجرد جانب من إبداعاته العلمية وتجليات حكمته.. ومن وراء ذلك، فقد كانت للرجل إسهامات مبهرة رفعته إلى مصاف «أعمدة الحكمة» ليس العربية فحسب، وإنما الإنسانية بعامة. فمن ذلك نظريته المبتكرة فى الإدراك الحسى، وكيفية حدوث «الرؤية» فى الدماغ وعدم اقتصارها على الفعل الميكانيكى للعين. ومن ذلك كلامه العلمى البديع عن أنواع «الحرارة» وتفرقته بين الحرارة الغريزية فى الأجسام، والحرارة الغربية الوافدة من خارج. ومن ذلك الشغف المعرفى الذى دعاه لتأليف كتاب «الشامل فى الصناعة الطبية» الذى يعد أكبر موسوعة علمية فى التاريخ الإنسانى، يكتبها شخصٌ واحد «وبخط يده» وكان ينوى أن يُتمها فى ثلاثمائة مجلد، لكنه توفى ولم يكمل منها غير ثمانين جزءاً.. وقد نشرتُ قبل سنوات «الجزء الثانى من الفن الثالث من كتاب الشامل، فى الأدوية المفردة والأغذية» فوقع فى أكثر من سبعة آلاف صفحة.
سوف نسير على خطى «العلاء» المعرفية، رافعين راية حكمته التى صاغها فى عبارته المبهرة التى يقول فيها: وأما نصرة الحق وإعلاء مناره، ومخالفة الباطل وطمس آثاره؛ فهو أمرٌ قد التزمناه فى كل فنٍّ «علم».. وقد التزم العلاء بذلك فعلاً فى أعماله العلمية والفكرية كلها «عدا مسألتين اثنتين أراه قد أخطأ فيهما، ولا أحب أن أذكرهما الآن» فكان بحق واحداً من أعمدة الحكمة التى قام عليها البنيان المعرفى العربى خصوصاً، والإنسانى عموماً.
ومن تجليات حكمة العلاء «ابن النفيس» أمر يجب علينا مراعاته إذا عزمنا على السير فى الطريق المعرفى، أسوةً به. أقصد بذلك حرصه على البدء مما أبدعه من قبله السابقون عليه، وعكوفه على أعمالهم بالتحليل والنقد. لأن المعرفة لا تبدأ أبداً من فراغ، وإنما هى ذات طابعٍ تراكمىٍّ بنائىٍّ يؤسَّس دوماً على الإسهامات السابقة، ويستكملها. ومن هنا اهتم العلاءُ بتراث السابقين، فشرح أعمالهم العلمية وانتقد بعض كلامهم وصوَّبه، بحسب ما انتهى إليه هو..
وقد فعل ذلك مع أعمال الطبيب اليونانى النابه «أبقراط» ومؤلفات الطبيب الشهير «جالينوس» وإبداعات العلامة البديع «ابن سينا».. وقد اهتم العلاء ابن النفيس بشكلٍ خاص بكتابات ابن سينا «الشيخ الرئيس» فى وقتٍ كادت فيه أن تنطمس، حتى إنه وضع عدة شروح على كتاب القانون فى الطب لابن سينا، قال بعض المؤرخين إنها بلغت عشرين شرحاً «لدينا منها الآن خمسة» وقال مؤرِّخون آخرون إن ابن النفيس: هو الذى جَسَّر الناس على كتاب القانون «أى من بعد إهماله».
لماذا اهتم العلاء بأعمال ابن سينا؟ سوف نتعرَّف ذلك فى مقالنا القادم الذى نستهدى فيه بمنارات الحكمة العربية، ونستعرض أعمدتها الراسخة، ونستكمل ما بدأناه اليوم من استعلانٍ لعام المعرفة.. وسيكون عنوان المقال: الشيخ الرئيس أبوعلى بن سينا، العلاّمة البديع.



----------------------------------------------------------------------------------

فى أيامنا الحالية، تحمل كلمة «شيخ» معانى ودلالات كثيرة، من أهمها: الداعيةُ الدينى، الفقيهُ الشرعى، الرجلُ إذا استطالت لحيته.. وفى أصل اللغة، فإن الكلمة تشير إلى مرحلةٍ عمريةٍ من حياة الرجل إذا مَرَّ بالمراحل المحددة «جنين، وليد، طفل، ولد، يافع، فتى، شاب، رجل، كهل، شيخ..» مثلما تمرُّ المرأة بمراحل عمريةٍ محدَّدةٍ لها أسماء أخرى، مثل: بنت، جارية، صبية، كاعب، ناهد، امرأة، عجوزٌ.. وبالمناسبة، لا يجوز فى فصيح اللغة العربية أن يوصف الرجل بأنه «عجوز» لأنها صفةٌ للنساء، كما لا يجوز وصف «الشيخ» إلا للرجل الأشيب، أما صفة «الكهل» فالمراد بها الرجل إذا كان متوسط العمر، أى بين الثلاثين والأربعين.
طيب.. لماذا يوصف «ابن سينا» بالشيخ، الرئيس، وهو الذى لم يتقدم فى العمر، وإنما مات وقد تخطى بالكاد سنَّ الخمسين؟ ولماذا يعد فى نظر الأكثرية واحداً من أعمدة الحكمة العربية، مع أنه من عرق غير عربى؟ وبأى معنى كان هذا العلامة عبقرياً بديعاً.. وما أهمية استحضاره اليوم فى غمرة بحثنا عن «الحكمة» فى العام الحالى، الذى نريده عاماً للمعرفة. وما دلالة العطاء الذى قدَّمه هذا الرجل للإنسانية جمعاء، ولتراثنا العربى على وجه الخصوص. وما ارتباط ابن سينا بسلسلة الحكماء الكبار الذين أتوا من قبله أو جاءوا بعده؟.. تلك هى الآفاق التى تستشرفها هذه المقالة.
■ ■ ■
تتفق المصادر التاريخية، والدراسات المعاصرة، على أن هذا الحكيم الملقب بالشيخ الرئيس، للدلالة على علو مكانته فى عدة علوم، هو: أبوعلى الحسين بن عبدالله، المعروف بابن سينا، عاش فى الفترة الممتدة بين عامى 375، 428 هجرية. ومع أن هناك عديداً من الاجتهادات البحثية المعاصرة، التى تفنَّنت وتحايلت لإيجاد تفسير لهذا الاسم العجيب، الفريد «ابن سينا»، الذى يكتبه البعض «ابن سيناء».. إلا أن هذه الاجتهادات لم تزل، حسبما أجدها، غير مقنعة.
وقد يتبادر إلى أذهان بعض القراء وَهْمٌ جديد، أو ظنٌّ خاطئٌ، بأن هذا الاسم مرتبطٌ بسيناء المصرية، التى نعرفها اليوم، وكان القدماء يعرفونها بهذا الاسم من قبل «التيه اليهودى»، الذى دام فيها على ما يزعمون، أربعين سنة «لماذا لم يستدلوا طيلة هذه السنوات بالنجوم، فيخرجوا» ولكن الشيخ الرئيس ابن سينا لم يأت يوماً لمصر، ولم يمرَّ يوماً بصحراء سيناء.. ومع ذلك، فإن أفكار ابن سينا ونظرياته ومؤلفاته، كادت جميعاً تنطمر بعد وفاته، لولا تمَّ إحياؤها فى مصر بعد ثلاثة قرون من وفاة الشيخ الرئيس، وذلك على يد ابن النفيس «علاء الدين»، رئيس أطباء مصر، الذى تحدثنا عنه فى مقالة الأسبوع الماضى.
وبحسب سيرة حياة الشيخ الرئيس، فقد كان مولد «ابن سينا» لأبٍ من بلدة بلخ «أفغانستان» ومن أمٍّ كانت تعيش ببلدة بخارى «أوزبكستان».. وهنا قد يقول قائلٌ معترضٌ: ما دام ابن سينا من أصول أفغانية، وأمه أوزبكية «وهى أعراقٌ غير عربية»، فلماذا نعدُّه عالماً عربياً، وواحداً من أعمدة الحكمة العربية؟
.. ولهذا المعترض نقول: لأن ابن سينا كتب أعماله بالعربية، وكان يتكلم بها، ويفكر، ويضع نفسه فى سلسلة المعرفة والحكمة التى انتظمت فى إطار الثقافة العربية والدين الإسلامى «عربى اللغة» وباستثناء بعض الرسائل القصيرة التى كتبها ابن سينا بالفارسية، مع أنه غير فارسى الأصل أيضاً، فإن مجموع أعماله ومفردات أفكاره، كانت عربية صريحة.. وقد نعى عليه بعض أمراء زمانه، أنه لم يدرس أصول اللغة العربية وقواعدها، فقام «ابن سينا» بتأليف ثلاثة كتب فى النحو واللغة، أورد فيها عديداً من البدائع العلمية. ولا يفوتنا هنا، أيضاً، أن ما لا حصر له من القبائل العربية كانت قد هاجرت واستقرت بالبلاد التى فتحها الإسلام من قبل مولد ابن سينا بقرون، وتزاوج هؤلاء مع أهل تلك البلاد «مثلما حدث فى صعيد مصر» فصاروا بعد حينٍ من الزمان أمة واحدة، لها لسانٌ واحدٌ.
إذن، كان ابن سينا عالماً عربياً، وواحداً من أعمدة الحكمة العربية، لأنه انتمى للثقافة العربية ونطق بلغتها ووضع المؤلفات فيها، فكان ابناً لها ثم صار واحداً من آبائها الكبار.
■ ■ ■
عاش الشيخ الرئيس حياته الحافلة بوسط آسيا، فى المنطقة المسماة اليوم «أفغانستان» و«أوزبكستان» فقد كان مولده ببلدة أبيه «بَلْخ» ونشأته ببلدة أمه «بخارى»، وهناك أتمَّ حفظه للقرآن وهو فى العاشرة من عمره، ثم تبحَّر فى العلوم بدعمٍ من والده، الذى حكى عنه الشيخ الرئيس فيما بعد، أنه استجاب للداعى المصرى، «الفاطمى، الشيعى الإسماعيلى» وتآخى معه على المذهب الذى كان يسمى آنذاك هناك «مذهب المصريين» نظراً لأن مصر فى زمن ابن سينا، كانت المقر العالمى للدعوة والتبشير «الكرازة» بالعقيدة الشيعية الإسماعيلية فى عموم البلدان الإسلامية، الدانية والقاصية، وهى الدعوة التى استجاب لها كثيرٌ من الأفراد والجماعات «ليس من بينهم أهل مصر!».. وقد حكى ابنُ سينا أنه كان يسمع محاورات أبيه مع الداعى الفاطمى، والجماعة الشيعية فلا تميل نفسه لكلامهم ومعتقداتهم.
ولا توجد أى مشكلات توثيقية أو تاريخية تتعلق بحياة ابن سينا، ومراحلها المختلفة. فقد كان الرجل مشهوراً فى زمانه منذ الصغر، نظراً لنباهته الفائقة فى تحصيل العلوم وممارسة الطب. بالإضافة إلى أن ابن سينا كان قد حكى كثيراً من تفاصيل حياته لتلميذه أبى عبيد الجوزجانى، فكتبها الأخيرُ، وتناقلها عنه المؤرِّخون، كما أن تلميذ الشيخ الرئيس، المعروف باسم «ابن زيلة» حكى كثيراً من تفاصيل حياة أستاذه ابن سينا، فصارت لدينا «سيرة حياة» معتمدة.. وبحسب هذه «السيرة» المشهورة، فقد بدأ سطوع نجم الشيخ الرئيس كطبيب ماهر، وهو فى سن الثامنة عشرة، فقد عالج سلطان بخارى «نوح بن منصور» من مرضٍ عضالٍ ألمَّ به، حتى شُفى. وعالج أميرًا آخر، فشفى من داء القولنج «القولون»، فكان ذلك مقدمةً وباعثاً على اختياره وزيراً، وهو المنصب الذى ابتلى به ابن سينا مرتين.. كلمة «وزير» مشتقة من «الوزر» واللافت للنظر، أن الشيخ الرئيس الذى طالما عالج الناس من «القولنج» فبرئوا منه، مات بالداء ذاته!
 لأنه تناول أدوية قوية، قيل إن بعض الخدم دسُّوا له فى الأدوية مقادير كبيرة من الأفيون، لأنهم كانوا قد سرقوا منه أشياء وخشوا أن يكتشفها إذا شُفى من دائه.. ولأنه، وهذا سبب آخر مباشر لوفاته، كان لا يكفُّ أثناء فترة نقاهته عن إتيان النساء! وقد أشار تلميذه «ابن زيلة» إلى أن الشيخ الرئيس يعدُّ استثناءً بين الحكماء، لأنه كان يحب النساء ..
وهذا كلامٌ غريبٌ من ابن زيلة، حسبما أرى، وصحيح أن بعض الحكماء اشتهر عنهم كراهية النساء مثل «أفلاطون» لكن معظم أهل الحكمة اشتهروا بخلاف ذلك، فقد كان الحكيم اليونانى المبهر «فيثاغورس» أول من قام بتعليم البنات، وانحاز لهنَّ، فثار عليه أهل مدينته اليونانية «ساموس» وأحرقوا مدرسته..
ولم نعرف عن حكماء العرب المسلمين نزوعاً للابتعاد عن المرأة، أو الكراهية لها، حتى يكون «ابن سينا» استثناءً بينهم بسبب ميله الجارف للمرأة.. وفى الحديث الشريف الشهير، تأتى النساء كأول الأشياء الثلاثة التى أحبها النبى. وفى سيرة كبار العلماء والحكماء، ما يدل على شغف كثيرين منهم بالمرأة، حتى الصوفية الزاهدون أمثال الشيخ الأكبر «ابن عربى» وحتى وإن كانوا من «الحنابلة» الذين اشتهر بين الناس أنهم متشدِّدون. فمنهم مَنْ كانت له أربع زوجاتٍ مجتمعاتٍ كالإمام الصوفى الحنبلى الجليل «عبد القادر الجيلانى»، ومنهم مَنْ اشتهرت عنه وقائعُ الصبابة، مثل الإمام العظيم «ابن الجوزى»، الذى ذكر عنه المؤرِّخون أنه: كان لا ينفك عن جاريةٍ حسناء..
«جارية فى اللغة، تعنى الفتاة صغيرة السن التى تودُّ لو تجرى بين أقرانها وتلعب» كما عُرف عن «ابن الجوزى» براعته فى الغزل، ومن وقائعه المشهورة أنه كان يحب امرأة باهرة الحسن، اسمها «نسيم الصبا» وسعى حتى تزوَّج منها، لكنه بعد حينٍ طلَّقها لأمرٍ وقع بينهما، لكنهما ظلا من بعد ذلك متحابَّين. فكانت «نسيم الصبا» تأتى لدروس الإمام «ابن الجوزى» وتجلس فى مقدمة مقصورة النساء بحيث يراها من فوق المنبر، ولطالما بثَّ لها فى ثنايا دروسه بإشاراتٍ عشقية، شعريةٍ ونثرية، تفهمها المحبوبة ولا يغيب معناها عن الجمهور الغفير الذى كان يحضر دروس الإمام. وبينما هو على ذلك، جاءت للدرس فى أحد الأيام امرأتان بدينتان، فجلستا فى مقدمة المقصورة وحجبتا «نسيم الصبا» عن الإمام فأنشد من فوره شعراً: أيا جبلىّ نُعمان بالله خلِّيا/ نسيم الصبا يخلص إلىَّ نسيمُها.
وعلى ما سبق، فليس الشيخ الرئيس ابن سينا بدعاً بين الحكماء، أو حالة استثنائية، حسبما زعم ابن زيلة، لأنه أحبَّ النساء.. بل الاستثناء هو عكس ما كان عليه ابن سينا، إذ كيف يمكن للرجل أن يكون حكيماً «أى متوغلاً فى الإنسانية» وهو لا يحب «المرأة» التى بها تكتمل معانى الإنسانية، وبها ارتبطت الحكمة والتأله منذ فجر الحضارة الإنسانية وحتى ظهرت الديانة اليهودية فدنَّست المرأة بعين ما تقدَّست به «على نحو ما جاء فى رواية: ظل الأفعى».
■ ■ ■
وبعيداً عن هذين السببين، اللذين ذكرهما المؤرخون لوفاة ابن سينا المبكرة نسبياً وهو فى سن الثالثة والخمسين «الثانية والخمسين بالسنوات الميلادية التى تزيد على الهجرية فى عدد الأيام» يمكن أن نقول إن الشيخ الرئيس بدأ مبكراً، فانتهى مبكراً.. ففى سن الثامنة عشرة، كان ابن سينا قد استكمل تحصيل ما وقع بين يديه من كتبٍ وما أتيح له من معارف. وهو يشير إلى ذلك بعبارات قوية نقلها لنا «الجوزجانى» منها قوله:
(كنت أرجع بالليل إلى دارى وأضع السراج «القنديل» بين يدىَّ، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبنى النوم أو شعرت بضعف، عدلت إلى شُرب قدح من الشراب «الخمر» ريثما تعود إلىَّ قوَّتى، ثم أرجع إلى القراءة. ومهما أخذنى أدنى نومٍ، أحلم بتلك المسائل وأعيانها حتى إن كثيراً من المسائل اتضح لى وجوهها «حقائقها» فى المنام. وكذلك، حتى استحكمت معى جميع العلوم، ووقفتُ عليها بحسب الإمكان الإنسانى. وكل ما علمته فى ذلك الوقت فهو كما أعلمه الآن، ورأيتُ من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس.. فلما بلغت ثمانى عشرة سنة من عمرى، فرغتُ من هذه العلوم كلها. وكنتُ إذ ذاك للعلم أحفظ، لكنه اليوم معى أنضج، وإلا فالعلمُ واحدٌ لم يتجدَّد لى بعده شىء. ثم مات والدى وتصرَّفتْ بى الأحوال، وتقلَّدتُ شيئاً من أعمال السلطان.. وكنتُ آنذاك على زىّ الفقهاء، بطيلسانٍ وتخت الحنك).
وبالإضافة إلى ما تفيده الفقرة السابقة من معلومات عن نشأة الشيخ الرئيس، وبدايته المعرفية القوية «يقول الصوفية: النهايات لا تصح إلى بصحة البدايات» فإن الفقرة تلقى الضوء أيضاً على مسألتين على درجة من الأهمية، المسألة الأولى تتمثل فى تلك الإشارة إلى أن العلم والمعرفة والفقه، لها مستويان: التحصيل والحفظ والاستذكار، ثم التأمل والفهم والاستظهار.. ولذلك فكثيراً ما يعرض لنا عند التقدم فى السن، أن نفهم أشياء كنا قد علمناها فى سنٍّ مبكرة، لكننا لم نعرفها حق المعرفة! أى أن العكوف على المعارف بالتأمل الناضج، شرطٌ لحصول المعرفة فى النفوس.. وذلك هو الترقى من العلم إلى المعرفة، ومن البصر إلى البصيرة، ومن الإدراك إلى الوعى.
والمسألة الثانية تتمثل فى التعبير الأخير الوارد فى كلام الشيخ الرئيس «تخت الحنك» وقد رأيتها فى بعض المخطوطات والنشرات مكتوبة «تحت الحنك» فلم أفهمها زمناً، وحتى الصيغة التى أوردتها فيما سبق، اعتماداً على مخطوطات أخرى «تخت الحنك» لم تكن مفهومة بالنسبة لى. حتى احتشدتُ قبل أيامٍ لكتابة هذه المقالة، وأعدتُ النظر فى هذا التعبير العجيب الذى مَرَّ بى من قبل مراراً، لكنه ظل بالنسبة لى غامضاً وغير مفهوم.. ثم تجلَّى معناه، كما يلى:
فى القرن الرابع الهجرى، والخامس «زمن حياة ابن سينا» كان قد انتشر من مصر تقليدٌ خاصٌّ لأزياء العلماء الكبار، وهو تقليدٌ فاطمىٌّ على وجه الخصوص، يقضى بأن يلفَّ الواحد من «العلماء المتبحِّرين» حول وجهه ستراً حريرياً ينـزل من عمامته ويدور من عند رقبته تحت الفم «الحنك» ولذلك نقول إلى اليوم فى وصف الخبير الماهر، والشخص البارع، أنه «محنَّك» فى إشارةٍ إلى ما كان معمولاً به أيام الفاطميين.. وقد مَرَّ بنا قبل قليل، أن الدعاة المصريين «علماء الفاطميين» كانوا ينتشرون فى أنحاء العالم الإسلامى للدعوة والتبشير «الكرازة» بالمذهب الشيعى الإسماعيلى، الفاطمى، وقد كان هؤلاء «محنَّكين» ومنهم انتشر هذا التقليد فى لباس العلماء كسمةٍ مميزة للفقهاء والعارفين، بصرف النظر عن مذهبهم.. فكان ابن سينا فى شبابه يتبع هذا التقليد كغيره من العلماء، ويخرج إلى الناس فى لباس العلماء: الطيلسان «الجبَّة المفتوحة من الأمام» وتخت الحنك.. أو بعبارة أخرى، كان يتخذ هيئة وزىّ «المحنكين» وبالتالى فلا خلاف كبيراً بين الكلمتين: تحت الحنك «وهو إشارة إلى طرف العمامة الملفوف تحت الفم = الحنك» تخت الحنك «بمعنى مجازىٍّ، إذ التخت هو السرير والثوب، مضافاً إلى الفم = الحنك» .
■ ■ ■
إذن، لم يكن ابن سينا عبقرياً بالصدفة «ولا يمكن ذلك أصلاً لأى شخص» وإنما صار رئيساً للحكماء لأنه انهمك فى تحصيل المعارف، ثم عكف بإصرارٍ على التأمل فيها واستخراج الغامض من المعانى، وصبر على ذلك مجاهداً نفسه «والعبقرية كما قال تشارلز داروين: صبرٌ طويل» بالإضافة إلى المنهجية الصارمة التى كان يلتزم بها فى المجالات المعرفية المختلفة.. فهو فى الطب يقدِّم لنا أول عرض منهجىٍّ «نسقىٍّ» للمعرفة الطبية فى زمانه، من خلال كتابه الأشهر الذى لا يمكن التأريخ للطب الإنسانى، إلا بالوقوف طويلاً عنده. وهو كتاب «القانون فى الطب» الذى نُظر إليه دوماً على أنه أتم وأشمل موسوعة طبية فى تاريخ الطب، وتجاوزت أهميته مؤلفات «أبقراط» الملقَّب بأبى الطب، وجالينوس الملقب بالفاضل.. وقد رأيت فى إيطاليا الطبعات الأولى التى قام بها الأوروبيون فى عصر النهضة، فكان «القانون» أسبق ظهوراً من أعمال أبقراط وجالينوس.
كما ارتبطت عبقرية ابن سينا بقدرته على التخلص من «الخرافة» وإزاحتها جانباً عند التناول العلمى والمعرفى للموضوعات. فمن ذلك مثلاً، ما نراه فى كتاب «القانون» عندما بدأ الشيخ الرئيس فى بحث حالة الجنون السوداوى، المسماة قديماً بلفظها اليونانى: المالنخوليا «ينطقها العامة: منخوليا» فقال: قد زعم البعضُ أن هذا المرض يقع عن «الجن» ونحن من حيث نتعلم الطب، لا يعنينا إن كان ذلك عن جنٍّ أو غير جن، بل نبحث فى سببه القريب.
إن ما أشار إليه ابن سينا من وجوب البحث «العلمى» عن السبب القريب للظاهرة، هو الأمر الذى صار بعد ألف سنة تالية، قاعدة علميةً تؤكدها «الميثودولوجيا» أو علم المناهج، حيث استقر الرأى على أن «العلم هو البحث عن السبب القريب لحدوث الظاهرة» بصرف النظر عما قد يأتى خلف ذلك من معتقدات أو تصوُّرات خيالية أو خرافات، تبرِّر وقوع الظواهر.. إلا أن ابن سينا لم يخترع هذا المبدأ العلمى، وإنما التزم به وانتظم فى سلسلة الحكماء الذين جعلوه قاعدة لهم. فهو المنهج ذاته الذى قرَّره حكماء آخرون قبل ابن سينا، وبعده، فمنهم الطبيب اليونانى العظيم «أبقراط»، الذى عاش فى جزيرة كُوس قبل ابن سينا بألف عام، حيث نراه فى بداية كتابه عن «الصَّرع» الذى كان يسمى فى زمانه «المرض المقدس» يستهل كلامه بقوله: «سأبحث الآن فى المرض المسمَّى بالمقدس، ولست أرى فيه أى قداسة تميزه عن غيره من الأمراض»..
وهو ما نراه أيضاً عند العلاء «ابن النفيس» الذى لم يخلط بين المعتقد الذى يؤمن به ويلتزم، وهو الشريعة الإسلامية، وبين ما أدى إليه النظر العلمى فى أمور كثيرة، منها تقريره فى موسوعة «الشامل» أن لحم الخنـزير هو أفضل اللحوم وأكثرها مناسبةً لجسم الإنسان «وقدم أدلة كثيرة على ذلك» وهو الذى رفض تناول الخمر للتداوى من علة مرضه الأخير، وهو الذى كان يعرف «ما قاله مالكٌ فى الخمر» إلا أنه كتب فى «الشامل» ما نصه: وقد ينبغى أن يكون السُّكرُ فى الشهر ولو مرتين، خاصةً لأصحاب الفكر الكثير والمشتغلين بالعلوم، فإن هؤلاء تكلُّ قوى أدمغتهم، فيكون السُّكرُ نافعاً لهم بإخماده لحركتها.. «تنبيه مهم: هذه بطبيعة الحال ليست دعوة لاحتساء الخمور، وأرجو ألا تكون سبباً للتهجم على ابن النفيس».
■ ■ ■
كتب ابن سينا كثيراً «ومن يكتب لا يمت» وأبدعَ فيما كتبه، فاستحق احترام العالمين وتقديرهم، وكان واحداً من الأعمدة التى قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة. ولذلك أطلقوا اسمه على واحدة من كبريات القاعات بالسوربون، ونشروا أعماله فى طبعات بديعة «قبل أن ننشرها فى مصر بقرابة ثلاثة قرون» وتفننوا فى دراسة أعماله الطبية والفلسفية.. ولو كان المجال هنا يسمح بالإطالة، لذكرت كثيراً من إبداعات ابن سينا العلمية التى أهملنا النظر فيها، واكتفينا بترديد اسمه ضمن علماء الإنسانية دون وعى بما قدَّمه، ودون الاهتمام بقراءة ما كتب.

--------------------------------------------
مع أن العرب المعاصرين، والمصريين، عندهم ميلٌ جارفٌ وشغفٌ عظيم بالتغنِّى بأمجاد الماضى العريق، ويستطيبون وصف بلادهم بعباراتٍ من مثل: مهد الحضارة، مهبط الديانات، قلب العالم القديم.. ومع أننا نرتاح كثيراً عند سماع تعبيرات عامة تقول ما مفاده: مصر علَّمت العالم، العلماء العرب المسلمون حملوا مشعل الحضارة الإنسانية لعدة قرونٍ، النهضة الأوروبية بدأت بترجمة العلوم عن اللغة العربية.. ومع ذلك كله، فنحن لا نهتم كثيراً (ولا قليلاً) بمعرفة أصول الإسهام الحضارى الذى قدَّمه أجدادُنا، والقواعد التى قامت عليها الحضارات على أرضنا، ومنارات المعرفة التى أضاءت التاريخ الإنسانى العام ودفعته إلى الأمام.
وقد يقول بعضهم إننا لا نهتم بتلك الأمور المعرفية، لأننا صرنا نعانى من الجهل والأمية والتخلُّف الحضارى.. لكن هذا مردودٌ بأن ما نعانى منه يجب أن يكون دافعاً (لا مثبِّطاً) يحدو بنا إلى اللحاق بركب المعرفة، حسبما كانت العرب قديماً تقول: «فى الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ».
ومن الغريب، والمدهش، أن معظم معاصرينا لا يعرفون شيئاً عن أشهر المترجمين فى تاريخنا (حنين بن إسحاق) الذى أُعدُّه واحداً من منارات الحكمة العربية، ليس لكونه أهمَّ «مترجم» فى تاريخنا فحسب، ولكن لأنه جمع بين الحكمتين النظرية (الترجمة) والعملية (الطب والطبيعيات)، وامتاز بصفةٍ إنسانيةٍ بديعةٍ هى «الوداعة» التى بها تزهو حكمة الإنسان وتزدان.. وفى بدء التعريف بهذا الرجل العلاَّمة، دعونا نستعرض بعضاً مما قاله المؤرِّخون والعلماء فى حقِّه، بعد سنواتٍ طوالٍ من وفاته:
حنين بن إسحاق، هو شيخ الأطباء بالعراق فى زمانه (الذهبى: كتاب العِبر فى خبر مَنْ غبر) كان فاضلاً فى صناعة الطب، فصيحاً باللغات اليونانية والسُّريانية والعربية، دار البلاد لجمع الكتب القديمة (النديم: الفهرست)، وكان طبيباً حسن النظر فى التأليف والعلاج، ماهراً فى صناعة الكحل (طب العيون) (القفطى: تاريخ الحكماء)، لم تُوجِد الأزمنةُ، منذ عصر الإسكندر، أعلمَ من حنين بن إسحاق باللغتين العربية واليونانية (البيهقى: تاريخ حكماء الإسلام).. وأرجو من القارئ هنا أن يلاحظ دلالة الكلام عن «حنين» ضمن حكماء الإسلام، مع أنه كان مسيحى الديانة.. فيدرك أن الإسلام ثقافةٌ تجمع المتفرِّق. على كل حال، كانت تلك «بعض» شهادات القدماء فى حق حنين بن إسحاق، فماذا عن شهادات المعاصرين الذين درسوا أعماله وتعمَّقوا فى بحث تراثه الخالد..
قالوا: حنين بن إسحاق هو أهمُّ شخصية علمية فى القرن التاسع الميلادى «الثالث الهجرى» وواحدٌ من أذكى البشر، تحمَّل المشاق فى سبيل المعرفة، حتى احتل مكان الصدارة فى عصره (لوسيان لوكلير: تاريخ الطب العربى).. هو الفيلسوف العبقرى العظيم، وزعيم المترجمين العرب بلا منازع، بدأ الترجمة وهو فى السابعة عشرة من عمره، وصار الشخصية الرئيسة فى عصر المترجمين (ماكس مايرهوف: من الإسكندرية إلى بغداد).. طاف حنين بن إسحاق على البلاد بحثاً عن المخطوطات القديمة، وسعى لمعرفة ما قدَّمه العالم القديم (ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام).
وأرجو من القارئ، مجدداً، أن يلاحظ فى «الشهادات» السابقة، أن قائليها ليسوا من العرب وإنما من المستشرقين الأوروبيين الذين درسوا التراث العربى واهتموا به، بأكثر مما فعل العرب المعاصرون.
■ ■ ■
فى منطقة «الحيرة» بجنوب العراق، وُلد حنين بن إسحاق سنة 194 هجرية، لأسرة مسيحية.. وبدأ حياته العلمية مبكراً بتشجيع من والده الذى كان «صيدلانياً»، وقيل: بل كان صيرفياً (تاجر عملة) فدرس الطب على يد أشهر أطباء زمانه «يوحنا بن ماسويه» وتفقَّه باللغة العربية وتبحَّر فيها حتى توهَّم بعضهم أنه درسها على يد الخليل بن أحمد الفراهيدى (وهو قولٌ غير صحيح)، وكان نبوغه العلمى مبكراً، حتى إن أستاذه «يوحنا بن ماسويه» غار منه واحتدَّ عليه أثناء مناقشةٍ علميةٍ، فصاح فيه: ما لأهل «الحيرة» وصناعة الطب، اذهب إلى قريب لك ليقرضك خمسين درهماً تشترى بها قفافاً صغاراً، وتقعد لتبيعها على الطريق، فهذا أنفع (أفضل) لك من هذه الصناعة (الطب).. وطرده، فخرج «حنين» باكياً مكروباً، وحسيراً، ولم يعد لمجلس «ابن ماسويه» إلا بعد سنتين.
ونزل «حنين» للإقامة بـ«بغداد»، عاصمة الدنيا آنذاك، وهناك التقى بالعلامة الشهير جبرائيل بن بختيشوع الذى تنبأ له بمستقبل مبهر فى الطب والترجمة، لاسيما بعدما رأى ترجمته لنصٍّ يونانى يُعرف بعنوان (الفاعلات) فقال «ابن بختيشوع» عن «حنين»: «هذا الفتى لئن مُدّ له فى العمر ليفضحنَّ سرجس».. يقصد أن «حنين» سيكون بعد حين متفوقاً على المترجم الشهير والطبيب النابه: سرجيوس الرأسعينى (نسبةً إلى بلدة: رأس عين).. وبموجب هذه الشهادة فى حقِّه، توسَّل «حنين» السبل المتاحة حتى عاد لمجلس «ابن ماسويه»، واستكمل التعلُّم على يديه.
وامتد العمر بـ«حنين»، وقام بترجماتٍ كثيرةٍ (بل هى الأكثر من نوعها) لأعمال «أبقراط» و«جالينوس»، فكان أحد الأسباب التى أدت إلى تطور الطب العربى، خاصةً أنه عاد مجدَّداً إلى ترجماته الأولى، فأعادها ونقَّح صياغتها حتى صارت نصوصاً عربيةً مبينةً، فمهَّد بها الطريق أمام الأطباء من بعده، لدراستها وشرحها وتطوير مباحثها وفقاً لخبراتهم الجديدة، فالطب يتطوَّر بالخبرة، لا بالبحث النظرى وقراءة الكتب.
ولم يقتصر جهد «حنين» على الترجمة من اللغتين اليونانية والسريانية إلى العربية، فى ميدان الطب. وإنما شارك أيضاً فى هذا الميدان بتأليف عشرات من الكتب والمقالات، بلغت التسعين عملاً، من أهمها وأكثرها أثراً فى تاريخ الطب العربى: المسائل فى الطب للمتعلمين، العشر مقالات فى العين، اختصار مؤلفات جالينوس (منتخبات الإسكندرانيين الستة عشر من أعمال جالينوس).. كما كانت له كتابات فى الحكمة والفلسفة والديانة، منها: مقالة فى سبب ملوحة ماء البحر، كتاب الفلاحة، مقالة قوس قزح، كتاب تاريخ العالم، مقالة فى تولُّد النار من الحجرين، مقالة فى المد والجزر، رسالة فيما أصابه من المحن والشدائد..
وفى هذه الرسالة الأخيرة، يحكى «حنين» الوقائع المريرة التى مرت به منذ ابتدأ السير فى طريق المعرفة، حتى صار رئيساً لبيت الحكمة فى بغداد، ومشرفاً على قرابة المائة مترجم ممن كانوا يعملون تحت إدارته، ويقومون بالترجمات التى يتولى مراجعتها واعتمادها قبل إخراجها إلى الناس. وقد مَرَّ بنا كيف تعامل يوحنا بن ماسويه مع «حنين» بفظاظةٍ وغلظةٍ، فلم يمنعه ذلك من العودة إلى مجلسه لاستكمال الدراسة.
لكن هذه لم تكن إلا أخفّ المحن التى لحقت بـ«حنين» الذى حظى بمكانةٍ خاصةٍ عند الخليفة المأمون بن هارون الرشيد (وكان محباً للمعرفة) وعند الخليفة الواثق بالله (وكان محباً للعلماء)، أما الخليفة «المتوكل» فقد نكَّل بحنين بن إسحاق، وحوَّل حياته جحيماً بسبب احتيال الحاسدين. ففى غمرة ما يسمى فى التاريخ المسيحى بحرب الأيقونات، أى الخلاف العقائدى حول قداسة صور المسيح والعذراء، يحكى أن «بختيشوع بن جبرائيل بن بختيشوع» أوقع به حين أخبره بأن الخليفة «المتوكل» يختبر عقائد النصارى بأن يطلب منهم إبداء رأيهم فى أيقونة (صورة) للمسيح، فإذا بصقوا عليها تركهم، وإن قالوا «هى صورة ربنا» عاقبهم.
ولم يكن للخليفة أى دخلٍ بهذه الخدعة فى واقع الأمر، ولا يعرف بها أصلا، فدخل عليه «بختيشوع» شاكياً من حنين بن إسحاق الذى يهين العقيدة المسيحية ويبصق على الأيقونات، فاستدعى الخليفةُ «حنين» وسأله عن رأيه فى أيقونة أحضرها أمامه فيها صورة المسيح والسيدة العذراء، فقال «حنين» إنها محض صورة لا تضر ولا تنفع، فاستغرب منه الخليفة وقال: أليست هذه صورة ربكم وأمه؟ فردَّ «حنين» بالنفى، فسأله هل يبصق عليها؟ فأجاب «حنين» بالإيجاب وبادر بالبصق على الصورة فارتاع الخليفة وغضب منه (لأن السيدة مريم مقدسة أيضاً عند المسلمين) واستدعى كبير الكنيسة الملقب آنذاك بالجاثليق (البطريق، البطريرك، البابا) وكان اسمه «ثيوذسيوس» فجاء الرجل على عجل إلى مجلس الخليفة، ولما دخل ورأى الأيقونة ملقاةً على الأرض قبَّلها وهو يبكى، ورفعها إلى صدره وهو يقول للخليفة إن ديانته (المسيحية) لا تسمح له بأن يدع الصورة ملقاة على الأرض. فوهبها له الخليفة، وسأله عن جزاء من يبصق عليها (و«حنين» حاضر) فقال الجاثليق: إن كان مسلماً يُلام ويوبخ، حتى لا يكرر فعله، وإن كان نصرانياً يُعاقب.
ضرب الخليفة «حنين» بالسوط مائة جلدة، واعتقله، وهدم بيته، وسلب منه كل كتبه.. أما الكنيسة فحرمته (طردته من حظيرة الدين) ولعنته سبعين لعنةً. يقول حنين بن إسحاق فى رسالته: ولقد لحق بـ«جالينوس» محنٌ عظيمةٌ، إلا أنها لم تكن تبلغ إلى ما بلغت بى أنا هذه المحن.. وإنما ذكرت ما جرى ليعلم العاقل أن المحن تنـزل بالعاقل والجاهل، والشديد والضعيف، والكبير والصغير، وليس سبيل العاقل أن ييأس من فضل الله، بل يثق ويحسن الظن بخالقه، ويزيد فى تعظيمه وتمجيده.
■ ■ ■
وبعد فترة من زمن المحنة، انكشف ذلك (الملعوب) أو الخدعة التى أودت بمكانة «حنين» وكادت تودى بحياته.. فما الذى كان منه؟ لا شىء، لقد عاد الرجل إلى عمله وانكبَّ عليه من جديد، وقدَّم المزيد من الإبداعات العلمية والنصوص المترجمة والإسهامات التى دفعت المسيرة الحضارية للعرب والمسلمين إلى الأمام.
واليوم، لا يختلف المشتغلون بالتراث العربى والعارفون به، فى أهمية هذا العلاَّمة الحكيم.. وقد بالغ بعض معاصرينا، وجرفته الحماسة، فزعم أن «العبقرية العربية الإسلامية فى العلوم، تدفقت بفضل حنين بن إسحاق» وهذه المبالغة لا تجوز فى حق أىِّ شخص، مهما كان عبقرياً ومبدعاً، لأن حضارة أمة كبيرة كحضارتنا العربية الإسلامية، لا يبدؤها رجلٌ واحدٌ (مهما كان) حتى يصحَّ القول إنها تدفقت من بين يديه، فالحضارة ظاهرة إنسانية مركَّبة، لابد لها من مقدمات وتمهيدات كثيرة، ولابد لها من اشتراك كبير بين العناصر الدافعة إليها، ولابد لها من تآزر جهود عديد من المبدعين المخلصين والمتوهِّجين المتوغلين والحازمين الحالمين.. ولو سمع «حنين» من يمتدحه بمثل هذه العبارات الحماسية، لما قبل ذلك أو ارتضى به، خصوصاً مع ما عرفناه عن حنين بن إسحاق من وداعةٍ وإيثارٍ للسلامة وميلٍ إلى السكون الحركى والانهماك فى العمل. وهى قيمٌ إنسانيةٌ نحتاجها اليوم بشدة، كى تهدِّئ من فوران «الثورة» المهتاجة فى القلوب، وتنقلها إلى طور جديد يتجاوز الفعل الظاهر (التظاهر) إلى العمق الباهر للروح الثورى الذى يقود المجتمعات المتحرِّرة إلى الأمام.
■ ■ ■
وفى مقابل الحماسة الشديدة، والمبالغة، فى تقدير قيمة حنين بن إسحاق وترجماته، نجد موقفاً متطرفاً فى الجهة الأخرى، يهوِّن من شأن هذا المترجم المهم، وهو موقف قديم يعود إلى زمن «حنين» نفسه. فقد روى المؤرِّخون كثيراً من شكاوى حنين بن إسحاق، ونعيه على أهل زمانه الذين تفنَّنوا فى إيذائه، فكان من ذلك قوله: «يقولون، من هو (حنين)؟ إنما هو ناقلٌ (مترجم) لهذه الكتب ليأخذ على نقله الأجرة، كما يأخذ الصناع الأجرة على صناعتهم.. فهو خادمٌ لأدائنا (ما نطلبه منه) وليس هو عاملاً بها، كما أن الحدَّاد وإن كان يُحسن صنعة السيف، إلا أنه ليس يُحسن العمل به، فما للحدَّاد والفروسية».
والرأىُ عندى، بخصوص هذا التطرف فى الحكم على الأشخاص (لاسيما المتميِّزين منهم) هو ألا نفرط فى المبالغة والتقدير حتى تطيش سهام أحكامنا، وفى المقابل، يجب ألا نفرط فى التهوين من شأن هذا الشخص أو ذاك، لأن فى الإفراط والتفريط طيشاً وحمقاً لا يجوز إلا من الحمقى والطائشين.. والاعتدالُ عند إصدار الأحكام على الناس، قيمةٌ إنسانيةٌ نحتاجها اليوم بشدة هى الأخرى، كى نخفِّف من غلواء نزعة التهجم السارية على الألسنة من بعد الثورة، وميل كثيرين إلى تجريح الناس وتعقب هَناتهم وأخطائهم وخطاياهم، واستدعاء الشوارد للحطِّ من قيمة كل إنسان، وكأن المفروض أن يكون البشر ملائكة (وهذا بالطبع يخالف الروح الثورى الحق).
■ ■ ■
وقد رأينا فيما سبق، كيف عاش حنين بن إسحاق معظم حياته الحافلة بالعمل العلمى وبالمآسى الطاحنة، فى بغداد (عاصمة الدنيا) إبان القرن الثالث الهجرى، التاسع الميلادى، وفيها كانت وفاته سنة 260 هجرية (وقيل سنة 264) وقد كان مولده فى أسرة «عِبَادية» أى من أتباع المذهب «النسطورى» الذى كان سائداً فى العراق آنذاك، وكان غالبية المسيحيين هناك (أو كثير منهم) يدينون به.. وكما هو معروف، فإن اقتراب النسطورية المسيحية من المفاهيم الإسلامية، كان من أسباب التآلف بين الناس فى دول الإسلام الأولى بالشام والعراق، خصوصاً فيما يتعلق بنظرة المسلمين والنساطرة (كليهما) للسيدة مريم العذراء «أم النور»، وللسيد المسيح الذى يراه أولئك وهؤلاء ابناً لله بالمعنى المجازى لا الفعلى، على خلاف المذهب السلفى المسيحى (الأرثوذكسى) الذى يراه إلهاً كاملاً، على النحو الذى عرضت له تفصيلاً فى كتابى «اللاهوت العربى»، وقد ظلَّ هذا الانتماء المذهبى المسيحى خلافياً، طيلة القرون الماضية (ولا أظنه سوف يُحسم إلا يوم القيامة). وهو الأمر الذى رأيت الإشارة إليه، وإلى خطورته تمهيداً لرواية هذه الواقعة التى أختتم بها المقالة:
قبل بضع سنوات قام البابا «شنودة الثالث» بطريرك الإسكندرية (للإسكندرية بطريرك آخر، هو البابا ثيوذوروس الثانى) بزيارتى فى مكتبى، وتفضل البطريرك المبارك بقضاء وقتٍ رائقٍ معى، أمضيناه فى مناقشات لاهوتية متعمقة بحضور عدد من الأساقفة والرهبان.
وأثناء المناقشة قلت للبابا شنودة إننى مستغرب من اعتماد الكنيسة المصرية هذه الترجمة العربية للإنجيل، على الرغم مما فيها من ضعف بلاغى من ناحية العربية الفصيحة (كان د.طه حسين قد أشار إلى ذلك أيضاً، فى كتابه: «مستقبل الثقافة فى مصر») وأشرت للبطريرك الجليل، العالم، إلى ما ذكره د. عبدالرحمن بدوى من وجود مخطوطة فريدة بدار الكتب المصرية بالقاهرة (هى الوحيدة من نوعها فى العالم) تشتمل على ترجمة عربية بديعة للإنجيل، بالغة الفصاحة، قام بها حنينُ بن إسحاق. وقد قرأها د. عبدالرحمن بدوى بنفسه، وامتدح لغتها العربية الرصينة.
وسألت البابا شنودة مستفسراً: لماذا تتجاهل الكنيسة المصرية هذه الترجمة، ولا تجعلها هى المعتمَدة؟ فنظر إلىَّ بجانب عينيه نظرةً مليئةً بالمعانى، كأنها تقول ضمن ما تقول، ولكن دون صوت «ألا تعرف السبب حقاً؟» وكنتُ حقاً لا أعرف السبب، أو بالأحرى: غاب عنى لحظتها.. لحظتها لكزنى برفق أحدُ الأحبة من الأساقفة الجالسين بقربى. فانتبهتُ من فورى إلى أن «حنين» كان نسطورياً، ولا يمكن للكنيسة الأرثوذكسية المصرية أن تعتمد عمله، نظراً للخلاف المذهبى بينهما، فأخذت الكلام إلى جهةٍ أخرى وامتدت الجلسةُ رائقةً مثلما كانت.
بعدها بعامين (سنة 2009) طلب منى أحد المطارنة، غير المصريين، صورة من هذه المخطوطة الفريدة لترجمة الإنجيل، فسعيتُ لتلبية طلبه.. لكن المخطوطة كانت للأسف قد اختفت، ولا أظنها سوف تظهر من جديد (على الرغم من تأكيد د.عبدالرحمن بدوى وجودها فى دار الكتب المصرية).
رحم الله حنين بن إسحاق، العلاَّمة الوديع، المظلوم حياً وميتاً.. ورحمنا من بعده.

-----------------------------------------------------

ربما يستغرب البعض حين يرى اسم الإمام «ابن تيمية» عنواناً لإحدى مقالات «منارات الحكمة العربية» التى تُعنى باللوامع والشواهق الفكرية والعلمية فى تراثنا الممتد فينا من الماضى إلى المستقبل.. يستغربون ذلك، لظنهم بأن هذا الرجل الذى اشتهر بين معاصرينا بالتعصب والصرامة والتشدُّد الدينى، بل صار فى وهم الناس بمثابة الأب الروحى للجماعات الإسلامية المتطرفة، أو هو المعادل الموضوعى لما يسميه معاصرونا: الفكر الوهابى.. لكن هذه الظنون والأوهام، كما سنرى بعد قليل، هى مجرد خلطٍ وتخليط صارا مع كثرة الترديد كأنهما حقيقة.. (الوهمُ يُمسى بعد حينٍ حقيقاً، فيصير التيهُ للناس طريقاً).
بدأت معرفتى بتراث «ابن تيمية» منذ أيام التلمذة، فقد زرت أيامها منـزل أستاذى الدكتور محمد على أبوريان، الواقع على ناصية شارع «لاجيتيه» الأنيق، بمنطقة الإبراهيمية بالإسكندرية (وهو الشارع الذى صار اليوم مرتعاً للمتعاركين ومعقلاً للخروج على القانون وساحةً للبلطجة).. وفى الشقة الفسيحة، العامرة جدرانها بالكتب، رأيت مجموعةً فاخرةً من المجلدات الكثيرة، عليها جميعاً عنوان (فتاوى ابن تيمية).
ولما أعجبتنى فخامةُ الطبعة، وأدهشنى أنها مجلدات «فُتيا» فى بيت أستاذٍ للفلسفة، سألت د. «أبوريان» عن ذلك، فقال إنها هديةٌ من سفارة «السعودية» فقد طبعوا على نفقتهم هذه الموسوعة الضخمة من (الفتاوى) وهم يعطونها مجاناً لأهل الفكر والمشتغلين بالتخصصات الإسلامية، كى تزدان بها مكتباتهم الخاصة، ويرجعوا إليها عند اللزوم:
ولماذا يفعلون ذلك يا دكتور؟
لأنهم يرِّوجون لأفكار ابن تيمية فى مصر، نظراً لارتباطه بالفكر الوهابى السائد فى السعودية.
عفواً يا أستاذنا، لكن ابن تيمية جاء قبل محمد بن عبدالوهاب بزمنٍ طويل، حوالى خمسمائة سنة، فكيف يرتبط به؟
آل سعود حنابلة، وابن عبدالوهاب حنبلى، وابن تيمية حنبلى.. وطبيعى أن يُحيى الحنابلة تراث مشايخهم السابقين.
لكن يا دكتور، عبد القادر الجيلانى كان حنبلياً أيضاً، وهم لا يهتمون فى السعودية بإحياء تراثه؟
افهمْ يا بنى، الموضوع كله سياسة فى سياسة.
بس يا أستاذنا، ما دخل السياسة فى المسألة السياسة تدخل فى كل شىء، حتى فيما يحصل بين الرجل وامرأته خلف الباب المغلق.
ضحك الاثنان من زملائى الحاضرين على المثال الذى ضربه الأستاذ، ولم يفهما معنى كلامه (ولا فهمته أنا وقتها).. ثم مرت الأيامُ وظهرت مؤلفات ابن تيمية فى كل مكان بمصر، وعرف الجميع أنها «المرجع» للجماعات الإسلامية التى كانت تسمى فى الإعلام المصرى آنذاك (فى الثمانينيات) الجماعات المتطرفة، المعارضة سياسياً للنظام القائم وما يزعمه من حرصٍ على «مناخ الاستقرار» و«حقوق الفقراء» و«دولة القانون» وغير ذلك من الخرافات التى كانت الأغلبية الساكتة (الصامتة) ترضى بها، من باب أن السكوت علامة الرضا.. ولأن المعارضين للحكومة من الإسلاميين (المتعصبين) كانوا يحتفون بفقه الإمام ابن تيمية وفتاواه، ويجعلونها لهم شرعةً ومنهاجاً، فقد استقر فى وهم الناس أن ابن تيمية هو شعار التطرف وعنوان التعصُّب الدينى.
وفى مطلع التسعينيات اضطررتُ للنظر فى تراث «ابن تيمية» تفصيلاً، وقد قادنى إلى ذلك ما كنتُ أقوم به من تحقيق ودراسة لأشعار (عفيف الدين التلمسانى) وقصائده الصوفية المفعمة بالمعانى الروحية والتألق البلاغى، فصار من الضرورى أن أنظر فيما قاله ابن تيمية عن «العفيف التلمسانى» من عبارات نارية، قادحة، من نوع قوله:
وأما الفاجر التلمسانى، فهو أخبث القوم (= الصوفية) وأعمقهم فى الكفر. فإنه لا يفرِّق بين الوجود والثبوت كما يفرِّق ابن عربى، ولا يفرق بين المطلق والمعيَّن (= الله والعالم) كما يفرِّق الرومى، ولكن عنده ما ثمَّ غيرٌ ولا سوى (= الله) بوجهٍ من الوجوه، والعبد عنده يشهد السوى (= العالم) ما دام محجوباً، فإذا انكشف حجابه رأى أن ما ثمَّ غير. ولهذا كان يستحلُّ جميع المحرَّمات، حتى حكى عنه الثقاتُ أنه كان يقول: البنتُ والأمُّ والأجنبيةُ شىءٌ واحدٌ.. وكان يقول: القرآن كله شركٌ ليس فيه توحيد، وإنما التوحيدُ فى كلامنا! وكان يقول: أنا ما أمسكُ شريعةً واحدةً! وإذا أحسن القول، يقول: القرآنُ يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى.. وله ديوان شعرٍ جيد، لكنه مثل لحم خنـزير فى طبق صينى! وما رأيتُ فيهم (= الصوفية) مَنْ كفر هذا الكفر الذى ما كفره أحدٌ قَطُّ، مثل التلمسانى.. (ابن تيمية: مجموعة الرسائل والمسائل، المجلد الأول، ص 184).
وقد دعتنى عبارات ابن تيمية المروِّعة هذه، إلى النظر فى طبيعة أفكار هذا الرجل (العنيف) الذى بدا لى من كلامه موفور الغضب، ميالاً لإزاحة المعارضين خارج دائرة الدين، حتى إنه لا يتورَّع عن تكرار كلمة (الكفر) وإيرادها مراراً فى عبارةٍ واحدة كتلك التى اختتم بها كلامه عن التلمسانى «ما رأيت مَنْ كفر هذا الكُفر الذى ما كَفره أحد..» فقادنى ذلك إلى قراءة كتبه، والكتب المؤلَّفة عنه، فرأيتُ فيها الكثير مما يثير الدهشة والتعجب. رأيتُ مثلاً ما يقوله الشيخ محمد أبوزهرة فى مقدمة كتابه عن ابن تيمية: «الإمام الجليل تقىُّ الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة، دراسته هى دراسةٌ لجيل، وتعرُّفٌ لقبسٍ من النور أضاء فى دياجير الظلام، ونحن المصريين نهلنا من آرائه فى قوانين الزواج والوصية والوقف، وكثيرٌ مما اشتمل عليه القانون رقم 25 لسنة 1929 مأخوذٌ من آرائه، مقتبسٌ من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها فى قانون الوقف والوصية، من أقواله..».
إذن، كانت مصر أسبق من السعودية فى الاهتمام بتراث ابن تيمية، ولم يقتصر هذا الاهتمام الأسبق زمناً على نشر مؤلفات ابن تيمية، بل تعدَّى ذلك إلى الاعتماد على رؤاه وفتاواه عند صياغة القوانين المصرية.. طيب، فما بال موقف ابن تيمية (العنيف) من الصوفية؟
ظهر لى بعد طول بحث، أن العداء الشهير بين ابن تيمية والتصوف، هو عداءٌ دعائىٌّ تم الترويج له، اعتماداً على آراء محدَّدة فى أشخاص بأعينهم، مثلما رأينا فى عباراته السابقة ضد العفيف التلمسانى. لكن لابن تيمية من وراء ذلك كتابات فى التصوف!
مثل رسالته اللطيفة التى عنوانها «الصوفية والفقراء» وفيها مدحٌ وفيرٌ للزهَّاد والصوفية المبكرين.. وله أيضاً كتابٌ بعنوان «شرح كلمات من فتوح الغيب» وفيه يفيض فى الإبانة عن المعانى العميقة الواردة فى كتاب (فتوح الغيب) للإمام الصوفى الكبير عبدالقادر الجيلانى، وهو من الصوفية المتأخرين زمناً، قريبى العهد نسبياً بزمان ابن تيمية (توفى الجيلانى سنة 561 هجرية، وتوفى ابن تيمية سنة 728 هجرية).
ثم رأيتُ لابن تيمية شهادة فى شيخ الصوفية الأكبر «ابن عربى» المتوفى سنة 638 هجرية، نصُّها أن ابن عربى هو أقرب أهل التصوف إلى الإسلام الصحيح.. ثم رأيت عند تلميذ ابن تيمية «ابن قيم الجوزية» ميلاً إلى التصوف والروحانية التى لا تستقيم ولا تتفق مع عداء المعاصرين من أتباع ابن تيمية، للصوفية!
الأمر إذن ملتبسٌ، ويحتاج إلى الإحاطة بالموقف الفكرى العام لابن تيمية، وهو الأمر الذى لا يمكن إدراكه من دون النظر فى تفاصيل حياة ابن تيمية، ومعاناته الطويلة.
فى سنة 661 هجرية كان مولد ابن تيمية بناحيةٍ من نواحى العراق اسمها «حرَّان»، وهى بلدة قديمة اشتهرت بالاشتغال بالفلسفة والحكمة، من قبل ظهور الإسلام ومن بعد انتشاره.. وعندما بلغ ابن تيمية السابعة من عمره، أغار التتارُ مجدَّداً على العراق بغية احتلالها (بعد سنوات قليلة من اجتياحهم المروِّع لبغداد سنة 656 هجرية) فاضطرت أسرة ابن تيمية إلى الفرار نحو الشام، والاستقرار فى دمشق التى لم تكن مستقرة. وبالطبع، رأى الطفل الويلات فى طريق الهروب الهجاجى إلى الشام، ثم رأى ويلات أفظع بعد استقراره بها. فما لبث الإمبراطور المغولى غازان (قازان) أن جاء بجيشه إلى الشام فهزم الجيش المصرى/ الشامى (= عسكر المنصور قلاوون) وصاروا بين يديه فلولاً هاربة إلى القاهرة، وتهيَّأ الإمبراطور المغولى المسلم لاقتحام دمشق.. وهنا، لا بد لنا من وقفة:
كان قازان (غازان) هو رابع الملوك المغول (التتار) المسلمين، ومع ذلك فإن إسلامه وإسلام سابقيه لم يمنعه من تدمير ديار الإسلام فى العراق والشام (ومصر لو كان قد استطاع) وهو الأمر الذى يدعونا للتأمل فيما يعتقده البعض من أن هجوم القائد المغولى البشع «هولاكو» على بلاد المسلمين، إنما كان لأنه رجل (كافر) لا يؤمن بدين.. فلو صحَّ ذلك، فكيف سعى خلفاؤه بعدما صاروا مسلمين إلى ما كان يسعى إليه من احتلال بلاد الإسلام وعبورها فوق جثث المسلمين؟ وكيف اتسم الإمبراطور المغولى المتأخر زمناً عن هؤلاء «تيمور لنك» بكل هذا العنف ضد المسلمين، مع أنه كان أيضاً مسلماً، حتى كان جنده يصنعون له من رؤوس قتلاهم أهراماً عالية لتسعد عيناه بأشلاء ضحاياه! المسألة إذن لا علاقة لها بالدين، بل بالسلطة والسيطرة، بصرف النظر عن عقيدة الراغب فى السلطان. وبعبارة أدق، فإن الرغبة فى السلطة تعلو عادةً على كل اعتبارٍ آخر، دينى أو أخلاقى، ولا تتورَّع عن رفع (الدين) شعاراً، عندما يبدو ذلك ممهِّداً لامتلاك السلطة ووسيلةً لاستقرارها.
المهم، أدى حصار التتار إلى فرار الناس مذعورين من دمشق، آملين فى أن يجدوا الأمان فى مصر والقاهرة. لكن ابن تيمية، وقد كان آنذاك فقيهاً معروفاً لم يهرب مثل كثيرين من علماء زمانه، بل قام بدور كبير فى تهدئة خواطر أهل دمشق فى غمرة «الانفلات الأمنى» الذى روَّع الناس هناك، خاصةً بعدما انسحبت القوات النظامية المملوكية (عسكر قلاوون) وانفلت المجرمون من السجون وعاثوا فى الأنحاء فساداً وترويعاً للمدنيين. ولم يستسلم ابن تيمية للواقع المضطرب فى دمشق، ودعا الأعيان إلى تشكيل جماعة تشبه ما نسميه اليوم (المجلس الرئاسى) لضبط الأمور فى دمشق ومفاوضة السلطان الغازى «غازان» أملاً فى إقناعه بعدم اقتحام العاصمة «دمشق» بعساكره.. وذهب ابن تيمية على رأس الوفد المفاوض، فوعده غازان (قازان) خيراً إذا ما سلَّم الناسُ أسلحتهم وأخرجوا المخبوء من أموالهم، ثم خدعه ودخل المدينة مثلما يفعل كثيرٌ من الغزاة والحاكمين.
وفى سنة 700 هجرية، جاء ابن تيمية إلى مصر، بعدما فشل فى الاجتماع مجدداً مع الغزاة لإقناعهم بالخروج من دمشق، وبعدما تسرَّبت أنباء عن نية السلطان المغولى اجتياح مصر. وفى القاهرة، راح ابن تيمية يحمِّس الناس ويدعوهم لقتال المغول، ويثير غيرة الأمراء والسلطان قلاوون للخروج إلى قتالهم.. ثم بلغه أن أهل دمشق سيهجرونها، فعاد إليهم ليزفَّ إليهم خبر استعداد قلاوون وجند مصر للخروج لملاقاة التتار، وصار هناك بمثابة ملكٍ غير متوَّج وسعى لتطبيق (الشريعة) وتنفيذ أحكام الله.
وفى إطار حملة «التشويه» التى طالت آنذاك كثيرين، على النحو الذى نراه اليوم فى وسائل الإعلام، ثار اتهامٌ شنيعٌ ضد «ابن تيمية» يزعم فيه المرجفون أنه يراسل التتار سراً، وينسِّق معهم المواقف! وهو الادعاء الذى انهار حين التقى الجمعان (المماليك والتتار) واخترع دعاة الانهزام حجةً تقول إنه لا يجوز محاربة التتار لأنهم مسلمون! لكن ابن تيمية أفتى بأنهم قومٌ من جنس «الخوارج» واشترك بنفسه فى قتالهم، فترك القلم وحمل السيف وتقدَّم الصفوف فى موقعة «شقحب» التى جرت فى شهر رمضان سنة 702 هجرية، وفيها انتصر أهل مصر والشام واندحر التتار بعد قتالٍ ضروس. وقد انكشفت لابن تيمية فى غمرة تلك الأحداث الجسام أمورٌ، منها أن «النصيرية» الذين نسميهم اليوم «العلويين» كانوا متواطئين مع الغزاة (المغول، الصليبيين) وكذلك فعل الغلاة من الشيعة على اختلاف مذاهبهم، فاشتدَّ هجوم ابن تيمية على (التشيع) وصبَّ جام فتاواه النارية، على كل مخالفٍ لمذهب السنة والجماعة.. وكذلك، رأى ابن تيمية أن الدراويش (الصوفية) يكتفون بالتبرك بالقبور وبالاستغاثة بالأولياء، من دون مجاهدة حَقَّة للغزاة. ومن هنا حمل حملةً شعواء على الشعوذة والدجل الذى كان يسود الأوساط الصوفية آنذاك.
وهكذا كانت حياة ابن تيمية سلسلة من «المحن» والبلايا والأسفار المتتالية، طوعاً وكرهاً، لكن ذلك لم يمنعه عن الاشتغال بالعلم والمعرفة الدينية والفقهية، خاصةً فى الفترة التى أقام فيها بالإسكندرية (سنة 709 هجرية)، ثم عكوفه على التدريس والفُتيا بالقاهرة، ثم عودته لاحقاً إلى الشام واعتقاله فى دمشق، وصدور الأوامر بمنعه من الكتابة بحجب الأوراق والأقلام عن زنزانته.. ومات ابن تيمية فى السجن سنة 728 هجرية، بعد حياةٍ عامرة بالوقائع حافلة بالمؤلفات، بحيث يصعب عرضها فى مقالة كهذه محدودة المساحة.
لكن السؤال هنا: ما هى «الحكمة» التى يمثلها ابن تيمية؟.. هى الحكمة (العلمية) المندرجة فى وقائع حياته، فلا يمكن فصل أفكاره عن الظروف الحياتية التى مرَّ بها. فابنُ تيمية ليس واحداً من هؤلاء الحكماء الذين توغَّلوا فى المعرفة (النظرية) أو أولئك الذين انعزلوا عن واقعهم. فالرجل لم يكن له مذهب «مشهور» وآخر «مستور» مثل عديد من حكماء العرب السابقين، ولم ينشغل بالقضايا منقطعة الصلة بالواقع، بل كانت أفكاره وفتاواه مثل جديلة مضفرة مع الأحداث الجارية فى زمانه، وكان هو لا ينفصل عنها.. وهذا يقود لسؤال آخر: لماذا اشتدَّ ابن تيمية فى هجومه على الشيعة، وعلى الصوفية؟
كان ابنُ تيمية فيما أرى، يتخذ مواقف متشدِّدة ضد «الشيعة» لا التشيع ذاته، وضد المتصوِّفة المعاصرين له، وليس ضد التصوف نفسه. وقد صرَّح فى بعض كتبه باعتقاده بأن أولئك وهؤلاء، هم السبب فى فتنة التتار!.. فلا يمكن الفصل بين حياة هذا الرجل ورؤاه الفقهية، ولو عاش ابن تيمية فى زمنٍ آخر، لما كان قد كتب ما كتبه. ومن هنا، فإن الاستدعاء المعاصر لبعض الجوانب من المنظومة الفكرية لابن تيمية وإحياء مؤلفات بعينها من أعماله، إنما هو نوعٌ من المخايلة الكاذبة بهذا التراث الفقهى، وتوجيه غير برىء للفتاوى التى أطلقها الرجل وهو محكوم بأحوال زمانه. فلو عاش ابن تيمية اليوم، ورأى مثلاً نضال «إيران» لأمريكا، لكان قد انحاز من فوره للجانب المسلم، وكفَّ عن التنديد بالتشيع! ولو عاش فى مرحلة من تلك التى حمل فيها الصوفية لواء المقاومة للمحتل الأجنبى، مثلما جرى فى وقائع كثيرة (المهدى فى السودان ضد الإنجليز، السيد ماء العينين فى المغرب ضد الفرنسيين، عمر المختار فى ليبيا ضد الإيطاليين، الأمير عبدالقادر الجزائرى ضد المستعمرين) لكان ابن تيمية قد انخرط فى سلك هؤلاء، ولم يقدح فى الصوفية.
إن ابن تيمية يمثل جانباً من «الحكمة» العربية الإسلامية التى يمكن وصفها بأنها حكمة الاستجابة لمتطلبات الواقع، واحتمال الأذى وحملات التشويه وتكرار الاعتداء عليه جسدياً بين فلول المماليك وبقايا الحكومات الساقطة (ضُرب ابن تيمية مراراً فى دمشق وفى القاهرة، لكن المصريين ثاروا من أجله فى المرة القاهرية) ومع عدم تقصيره فى تلك الاستجابة، لم يقصِّر فى الجهد العلمى الذى قدَّمه فى مؤلفات مبهرة، غير الفتاوى والأحكام الفقهية المؤقتة، وهو ما نراه فى أعمالٍ له لا يسمح المقام هنا بعرضها أو الإفاضة فى لمحاتها الذكية، بل العبقرية.. أعمالٍ من نوع: درء تعارض العقل والنقل، الرد على المنطقيين، اقتضاء الصراط المستقيم.
وفى الأسبوع المقبل، سوف نتوقف عند منارة أخرى من منارات الحكمة العربية، يمثلها واحد من الصوفية الذين عاصروا ابن تيمية، وكانت بينهما صلةٌ سوف نبدأ بها مقالنا القادم عن حكيم الصوفية: ابن عطاء الله السكندرى.

----------------------------------------------------------

فى ابتداء القرن الثامن الهجرى، كان أشهر فقهاء ذاك الزمان فى مصر والشام هو تقىُّ الدين ابن تيمية، بينما كان ابن عطاء الله السكندرى هو أشهر رجال التصوف فى مصر. وفى خاتمة المقالة المنشورة هنا الأسبوع الماضى، أشرتُ إلى أن هناك «صلة» جمعت بين هذين الرجلين الكبيرين، ولم يكن مقصودى بذلك هو تلك المناظرة المزعومة التى قيل إنها جرت بينهما فى القاهرة، التى كان الصوفىُّ المالكى البديع «ابن عطاء الله» قد انتقل إليها من الإسكندرية، للعيش بها وللتدريس فى الأزهر وفى المدرسة المنصورية، وكان الفقيهُ الحنبلى المجاهد «ابن تيمية» قد عاد إليها سنة 707 هجرية، بعد أشهرٍ قضاها فى الإسكندرية، منفياً بأمر السلطان.
والمناظرةُ المزعومةُ بين الرجلين، حكاها بالتفصيل الأستاذ (عبدالرحمن الشرقاوى) فى كتابه: الفقيه المعذَّب ابن تيمية، وألمح إليها الشيخ (محمد أبوزهرة) على استحياء، فى كتابه عن ابن تيمية. وهى تضم حواراً طويلاً من المفترض أنه جرى بين الإمامين، الفقيه والصوفى، وكانت الغلبة فيها لابن عطاء الله الذى دافع عن التصوف ودفع هجوم ابن تيمية على الصوفية ودمغ حججه بالبطلان.. وقد تحاذق كثيرٌ ممن تناقلوا مؤخراً هذه المناظرة، ونشروها بوفرةٍ على شبكة الإنترنت، مؤكِّدين وقوعها بقولهم إنها وردت عند اثنين من كبار المؤرِّخين القدماء، هما ابن الأثير وابن كثير.. وهو زعمٌ باطل لأن «ابن الأثير» توفى قبل مولد الرجلين، أصلاً، بعشرات السنين! ولأن «ابن كثير» لم يفصح عن وقوع (مناظرة) بين الفقيه ابن تيمية، والصوفى ابن عطاء الله السكندرى.
■ ■ ■
وأعتقد من وراء ذلك، ومع يقينى أن المناظرة مكذوبة، أن هناك «صلة» جمعت بين هذين الرجلين الكبيرين اللذين أرى فى كُلٍّ منهما (منارة) من منارات الحكمة العربية، على الرغم من الاختلاف الظاهر بين موقف كل واحدٍ من الاثنين على حدة. وهذه الصلة فيما أرى، قامت على (الوصلة) الوثيقة بين الفقه والتصوف. فقد بدأ ابنُ عطاء الله حياته العلمية فى الإسكندرية، فقيهاً على المذهب المالكى، وكان يتعجَّب من منهج الصوفية وينعى عليهم اعتقادهم بأن هناك علماً آخر يختصون به، غير الفقه، حتى التقى بأبى العباس المرسى (تلميذ أبى الحسن الشاذلى) فعرف منه أن الفقه علمٌ ظاهر يتعلق بالظواهر، وللتصوف من بعد ذلك معارف تتعلق بالقلوب والبواطن، وأنه لا خلاف على الحقيقة بين الجانبين: الظاهر والباطن، الشريعة والحقيقة، العقل والقلب، الفقه والتصوف.. يقول ابن عطاء الله فى كتابه (لطائف المنن فى مناقب أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن) ما مفاده: كنتُ منكراً على الشيخ أبى العباس المرسى معترضاً عليه، ثم أتيتُ مجلسه فوجدته يتكلم فى الأنفاس (الأذواق) التى أمر بها الشرع، ومراتبها، فيقول إن أولها الإسلام وثانيها الإيمان وثالثها الإحسان، وإن شئت قلت أولها شريعة وثانيها حقيقة وثالثها تحقُّق، وإن شئت قلت.. إلخ.
انبهر ابن عطاء الله بأبى العباس «المرسى» ولازمه من يومها، على النحو الذى يذكِّرنى بما جرى قبل لقائهما بقرابة اثنى عشر قرناً من الزمان، فى الإسكندرية أيضاً، حين حضر إليها من صعيد مصر الفيلسوف الشاب «أفلوطين» ودخل على الحكيم السكندرى البديع «أمونيوس ساكاس» فوجده يتكلم فى المعرفة على رأى الفلاسفة، فصاح: هذا ما كنت أبحث عنه.. ثم لازمه حتى تعلَّم منه أصول الحكمة، وصار من بعده واحداً من أهم فلاسفة الإنسانية.
ما الصلة بين ابن تيمية وابن عطاء الله السكندرى؟.. إنها الجمع بين الفقه والتصوف، فقد كان كلاهما فى الأصل فقيهاً، ثم صار له طريق إلى التصوف. غير أن حكيم الصوفية «ابن عطاء الله» توغَّل فى الطريق الصوفى، من دون أن يتخلَّى عن الفقه والتدريس، بينما انشغل المجاهد العتيد «ابن تيمية» ببلايا زمانه وسوء الأحوال، فحال ذلك دون التوغُّل فى مشاربه الصوفية التى رأيناها فى أعماله التى لا يروَّج لها، مثل شرحه لكتاب (فتوح الغيب) ومثل رسالته اللطيفة: الصوفية والفقراء.. وكأننى بالرجلين، ابن تيمية وابن عطاء الله، اللذين كانا متعاصرين وكان لكل منهما وجهةٌ تولاها، هما فى حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة جامعةٍ بين الفقة والتصوف فى إطار «الحكمة»، التى كان كُلٌّ منهما منارةً لها، على طريقته الخاصة.
واللافت للنظر هنا، أنه على الرغم من تقارب الرجلين فى زمن الميلاد، حيث وُلد ابن تيمية سنة 661 هجرية وكان مولد ابن عطاء الله قبله بأقل من ثلاثة أعوام. وعلى الرغم من أن المتصوف منهما «ابن عطاء الله» عاش فى الإسكندرية والقاهرة حياة وادعة هادئة، ولم يخرج من مصر؛ بينما مَرَّ الفقيه «ابن تيمية» بأهوالٍ كثيرة وأحوالٍ شداد، فقضى معظم حياته متنقلاً (وهارباً) من حرَّان إلى الشام، ومن مصر إلى الشام، ومعتقلاً سياسياً فى القاهرة ودمشق لمرات عديدة، ومحارباً للتتار حينا ومضروباً من المسلمين المخالفين له أحياناً. إلا أن ابن تيمية عاش فى ظل ظروفه الحياتية المضطربة، زمناً أطول مما عاشه ابن عطاء الله فى كنف الرحابة الروحية! فقد توفى ابن عطاء الله السكندرى فى القاهرة فور تخطيه الخمسين من عمره، سنة 709 هجرية، بينما عمَّر ابنُ تيمية من بعده حتى بلغ السابعة والستين، ثم توفى حبيساً فى دمشق سنة 728 هجرية.. والعجيبُ أن كليهما دُفن فى مقابر الصوفية هنا وهناك (لا يزال قبر ابن عطاء الله، بالمقطم، يُزار إلى اليوم) وفى ذلك عبرة لذوى البصائر، عند تأمل النهايات والمصائر.
وقبل أن نترك هذه السمة (الصلة) الجامعة بين الفقه والتصوف، وكيلا يترسَّخ فى أذهان الناس وَهْمُ الاختلاف بينهما، ولئلا يظنّ البعض أنهما أمران متعارضان؛ لا بد هنا من تأكيد حقيقةٍ دقيقةٍ، ملخَّصها أن التصوف والفقه كانا دوماً يجتمعان عند أفراد الرجال، فلا يمكن أن نجد شيخاً صوفياً كبيراً (خصوصاً الذين تصدَّروا لتربية المريدين) يجهل الفقه ولطالما كان شيوخ الصوفية يبدأون بالفقه قبل التصوف، ثم يجمعون فى النهاية بين الأمرين، مثل أبى القاسم الجنيد (شيخ الطائفة) وعبدالقادر الجيلانى، وجلال الدين الرومى، وفريد الدين العطار، وغير هؤلاء كثير.. أما الذى يخوض غمار الطريق الصوفى (الطريقة) من غير البدء بالمعارف الفقهية (الشريعة) فهو «مجذوب» لا يعوَّل على أحواله عند أهل (الحقيقة) ومن هنا يقول الصوفية: مَنْ تشرَّع ولم يتحقَّق فقد تفسَّق، ومَنْ تحقَّق ولم يتشرَّع فقد تزندق.
■ ■ ■
لماذا سُمِّى ابن عطاء الله السكندرى، حكيم الصوفية؟.. لأن الكتاب الأشهر بين المؤلفات التى تركها، كان عنوانه: الحِكم (جمع حكمة) ويبدو أن العنوان الأصلى للكتاب كان «الحكم الإلهية» لكنه اشتهر بين الناس بعنوان: الحكم العطائية.
والكتابُ عبارة عن فقرات قصيرة، بليغة، تعبِّر عن المعانى الروحية الرحبة، وتلخِّص الحقائق الصوفية التى يعرفها أهل الإلهام. ولم يكن ابن عطاء الله السكندرى هو أول من رسم هذا الطريق التأليفى بين الصوفية، ولم يكن الصوفية بعامة هم الذين ابتكروا هذا النوع من الكتابة.. فمن قبل ظهور التصوف (والإسلام ذاته) بمئات السنين، كتب الطبيب اليونانى القديم «أبقراط» مجموعة من الحكم الطبية فى كتابه الشهير: الفصول، وكتبَ الفلاسفة والحكماء أقاويل بليغة وعميقة، جُمعت لاحقاً فى كتب سُميت: نوادر الفلاسفة. وفى مجال التصوف تحديداً، ومن قبل ابن عطاء الله السكندرى بزمنٍ طويل، كتب النِّفَّرى (المواقف) و(المخاطبات) وهما نصَّان يقتربان أسلوبياً من طبيعة الحكم العطائية، التى يقترب منها أيضاً ما كتبه الإمام عبدالقادر الجيلانى فى مقالاته الرمزية التى جمعتُها فى ديوانه الشعرى والنثرى الذى أصدرته منذ سنوات (وكان أصلاً هو الجزء الثانى من رسالتى للدكتوراه).
«الحكم العطائية» إذن، ليست كتاباً فريداً فى بابه. لكنها نالت شهرةً واسعة عند الصوفية ومحبى التصوف، نظراً لكثافة لفظها واتساع معانيها، وهو الأمر الذى دعا كثيرين لوضع (شروح) على هذه الحكم، منهم صوفية كبار من أمثال ابن عجيبة الحسنى والشيخ أحمد زرُّوق، وكثير من الشُّراح الذين لا يكاد عددهم يقع تحت الحصر، ولعل آخرهم زمناً هو الدكتور على جمعة (مفتى الجمهورية) الذى عرفتُ فيه ذوقاً صوفياً، قبل سنوات طوال من توليه رئاسة الإفتاء بمصر.. اللافت للنظر هنا، أن أكبر شخصيتين دينيتين اليوم فى مصر (المفتى، شيخ الأزهر) انطلقا أصلاً من ميدان التصوف، فكانت للمفتى أذواقه الروحية، وللإمام الأعظم دراساته فى شيخ الصوفية الأكبر «ابن عربى». ومع ذلك، نجح السلفيون الذين يكرهون التصوف، فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة!
■ ■ ■
وشُرَّاح الحكم العطائية، الكثيرون، يبدأون دوماً بإيراد كلام ابن عطاء الله، ثم يعقبون عليه ويتوسَّعون فى بيان معانيه، بحسب ما يفهمه الشارح وما يعرفه من دلالات صوفية لهذه (الحكمة) أو تلك.. ولسوف نتبع فيما يلى، ونحن بصدد التعريف بهذا الكتاب، طريقاً عكسياً:
فى الإنسان ميلٌ فطرى للظهور والاستعلاء والطاووسية، وهو أمرٌ يمكن ملاحظته فى الأطفال أكثر من الكبار، فالطفل الصغير إذا ارتدى ملابس جديدة تعجبه، تاه بها دلالاً وفخراً واغتراراً، وودَّ لو نظر الجميع إليه. وهو يحرص، بعكس الكبير، على لفت الأنظار إليه بالصخب أو بالصراخ، حتى يلتفت إليه الآخرون ويؤكِّدون له وجوده. وكلما نضج الإنسان وارتقى حاله، تخلَّص تدريجياً من هذه الرعونة المتمثلة فى حب الظهور ولفت الأنظار. ولذلك، مثلاً، ترى الشاب الصغير إذا قاد سيارة يُعلى صوت الأغانى، استجلاباً لنظر الناس (خصوصاً الفتيات) ولا يفعل مثل ذلك إذا تقدم فى العمر وتعقَّل. إذن، الظهور والتباهى والخيلاء كلها دلائل على نقصٍ، بينما الاتزان والتوارى والتواضع (= الخمول) دليلُ نضج فى كل إنسانٍ وسبيلٌ للترقى فى الحكمة.. كيف عبر ابن عطاء الله السكندرى عن هذا المعنى؟ قال: ادفنْ وجودك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يصلح دفنُهُ، لا يتم نتاجُه.
وفى النفس الإنسانية ميلٌ فطرى إلى التعجل، ولذلك قالت الآية القرآنية وكان الإنسان عجولاً، وقال ديكارت إن من أفدح أخطاء العقل الإنسانى «التسرع فى الحكم» وقالت خبرات الحيوات الإنسانية إن كثيراً مما يود الفرد حصوله، يكون سبباً فى تعاسته وهلاكه. فكم من عاشقٍ سعى إلى الارتباط بمعشوقةٍ ثم كانت وبالاً عليه، وكم من طامحٍ إلى مالٍ أو منصبٍ أو جاه، ثم أتاه الغمُّ بعد حصول ما كان يطمح إليه ويتمناه. إذن، الإنسان يريد الأشياء ويدعو الله لحصولها، وهو غير مدرك أنها قد تكون سبباً فى تعاسته!
ويستبطئُ الاستجابة من الله مع أن الإبطاء رحمة باطنة لا يدرك المرءُ حكمتها.. كيف عبَّر حكيمُ الصوفية عن ذلك؟ قال: لا يكن تأخر أمر (= وقت) العطاء مع إلحاحك فى الدعاء، موجباً ليأسك؛ فهو (= الله) ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختار لنفسك؛ وفى الوقت الذى يريد، لا فى الوقت الذى تريد.. ثم أضاف ابن عطاء الله: لا تشكَّ فى الوعد لعدم وقوع الموعود، كيلا يكون ذلك قدحاً فى بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك (= قلبك).
وفى الإدراك الإنسانى للأمور خاصية لا سبيل إلى الخلاص منها، هى ضرورة أن تكون هناك «مسافة» تسمح للإنسان بالإدراك. فإذا ما اقترب أحد من لوحة فنية حتى كادت المسافة تنعدم، لم يمكنه أن يرى اللوحة أو أىَّ مرئىٍّ آخر، لقرب المسافة. وكذلك الحال مع بقية المدرَكات وطرق الإدراك. وقد قال تعالى فى قرآنه، إنه أقرب إليه من حبل الوريد كنايةً عن القرب الشديد! وقال الصوفية إنهم يشعرون بالله حاضراً فى كل شىء، ويرونه متجلياً فى كل موجود بالكون، لكن عموم الناس لا سبيل لهم لمعرفة هذا المعنى، فيكونون بعيدين عن الله مع أنه قريبٌ جداً منهم.. فكيف صاغت الحكم العطائية هذا المعنى؟ يقول ابن عطاء الله: إنما حجب الحقَّ (= الله) عنك، شدةُ قربه منك! ويقول: إنما احتجب لشدة ظهوره، وخفى عن الأبصار لعظم نوره! ويقول: علم (= الله) أن العباد يتشوَّفون إلى ظهور سر العناية (=الإلهية) فقال يختصُّ برحمته مَنْ يشاء.
ومن طبيعة الإنسان الجزعُ عند وقوع الواقعات، والفزعُ عند حدوث الابتلاءات من حرمان أو فقر أو فاقة؛ مع أن ذلك قد يكون هو السبيل لتصفية النفس من شوائب البشرية، ولذلك جاء فى الخبر أن أشدَّ الناس ابتلاءً الأنبياءُ ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. ومن هنا، دعا الصوفية إلى سكون العبد عند الابتلاء، وحكيم الصوفية يصوغ من دُرر الكلام ما يعبِّر عن هذا المعنى، فيقول ما نصُّه: الفاقات بَسْطُ المواهب.. ويقول: ورودُ الفاقات (= حدوث الابتلاءات) أعيادُ المريدين.. ويقول: ربما تجد مع المزيد من الفاقات، ما لا تجده فى الصوم والصلاة! وهو المعنى الذى ورد فى كلام بليغٍ للإمام عبدالقادر الجيلانى، الذى دعا مريديه إلى الترحيب بالابتلاء، والابتهاج بافتقار الأفئدة إلى الله، ومعرفة الله بالفقر إليه؛ فقال إنه سمع فى أنحاء روحه خطاباً (فهوانياً) إلهياً: يا غوثَ الأعظم، قل لأحبابك وأصحابك: «مَنْ أراد منكم صحبتى فعليه بالفقر، ثم فقر الفقر، ثم الفقر عن الفقر». فإذا تمَّ فقرهم، فلا ثَمَّ إلا أنا.
■ ■ ■
ولولا محدودية المساحة هنا، لأفضتُ فى الكلام عن الحكم العطائية والآفاق الرحيبة لمعانيها الروحية، وارتباطها ببقية الرؤى الصوفية التى تمت صياغتها بحساسية أسلوبية عالية، كثيفة الدلالة، لا يمكن قراءتها على الوجه الصحيح إلا بعين القلب.


--------------------------------------------------------
للحكمة العربية فى الزمن الإسلامى تجليات عديدة فى مجالات متعددة، عرضنا لبعضها فى المقالات السابقة من هذه السباعية، عبر لمعات وبروق الحكمة عند أطباء من أمثال ابن سينا وابن النفيس، ومترجمين مثل حنين بن إسحاق، وفقهاء كابن تيمية، وصوفية كابن عطاء الله السكندرى، وبطبيعة الحال، فقد ظهرت آيات الحكمة العربية فى المجال الفلسفى، الذى امتد فى تراثنا زمناً طويلاً، وكان يشتدّ ويضعف، بحسب الحال البادى مع الأوقات فى كل حقبة.
وفى الحقيقة، فإن حضور الفلسفة (التى هى وفقاً للتعريف المدرسى: محبة الحكمة) أو خفوتها، يعد مؤشراً دالاً على الحالة العقلية العامة السائدة فى المجتمع خلال هذه الفترة أو تلك. فالاحتفاء بالفكر الفلسفى دليل على صحة «العقل الجمعى»، بينما اختفاء الفلسفة يدل على التخلف الذهنى العام فى المجتمع، ومن هنا، نفهم الحالة العقلية التى سادت فى المجتمع الليبـى، إبان حكم القذافى، الذى حظر استعمال كلمة الفلسفة، واستخدم بدلاً منها كلمة (التفسير)، غير الدالة على الفلسفة من قريب أو بعيد، بينما يهتم الغرب المعاصر فى أوروبا وأمريكا بالفلسفة، لفظاً ومعنى، ونفهم أيضاً من هذه الزاوية ذاتها، حالة الفكر المصرى فى النصف الأول من القرن العشرين، الذى شهد نهضة فكرية عامة، تمثلت فى العناية بالفكر الفلسفى، وفى ظهور مفكرين من أمثال لطفى السيد وطه حسين وعبدالرحمن بدوى (وغيرهم كثير)، مقارنة بحالة الضمور العقلى المصرى، فى النصف الثانى من القرن العشرين، إبان حكم الضباط الأحرار «جداً»، ومن ورث دولتهم من ضباط لا يزالون يحكمون البلاد حتى الآن، ويفسحون المجال أمام التراجع العلمى والتعليمى بالبلاد، وهجرة العقول النيِّرة، ووثبة اللحى الكثيفة، وسير الأفهام بأقدامٍ كسيحة.
وكان ظهور الفلسفة، لفظاً ومعنى، أيام مجد اليونان القديمة وازدهار الزمن السكندرى القديم. لكن ذلك لا يعنى أن أثينا والإسكندرية كانتا أول من ابتدأ الفلسفة، لأن مصر القديمة والهند وبلاد فارس (إيران القديمة) والعراق، وغيرها من الحضارات الأسبق زمناً على الحضارة اليونانية، عرفت أنماطاً متنوعة من التفكير الفلسفى والعلمى والإنسانى، لا تقل براعةً، وابتكاراً وحذقاً، عما قدمته الحضارة اليونانية فى زمنها المبكر، المعروف اصطلاحاً بالمرحلة الهيللينية (مجد أثينا) وزمنها المتأخر المسمَّى المرحلة الهيللنستية (مجد الإسكندرية)، لذلك نرى تشابهاً فى فكرة أفلاطون الركيزية عن وجود أصل سماوى للموجودات الحسية، مع الفكرة الفارسية القديمة الواردة فى كتابهم المقدس المسمَّى الأفستا (الإبستاق)، حيث ورد أن للماء الأرضى أصلاً سماوياً يسمى «مرداد» وللنار الحسية أصلاً علوياً يسمى «خرداد» وللبشر جميعهم ابتداءٌ من الأب الأول «ميش» وزوجه المسماة ميشانه، وهو الأب الأصلى المعروف فى التراث الشرقى باسم: آدم قدمون (آدم القديم)، ولذلك أيضاً، نجد أن الأسماء الثلاثة الكبيرة فى تاريخ الفلسفة اليونانية المبكرة، وهم «طاليس» أول الفلاسفة، و«فيثاغورس» أبدع الفلاسفة، و«أفلاطون» أشهر الفلاسفة، تعلَّموا جميعاً فى مصر القديمة ونهلوا من حكمة كهنة آمون (الذين تصوِّرهم أعمالنا الدرامية المعاصرة فى هيئة مزرية، مع أنهم كانوا أكبر علماء الإنسانية فى زمانهم المبكر).
■ ■ ■
وفى ابتداء الحضارة العربية الإسلامية، إبان زمن الخلفاء الأربعة وحكم بنى أمية، لم يكن العرب المسلمون يهتمون من الفلسفة بغير الجانب الإلهى (الميتافيزيقى)، الذى كان حاضراً فى الشام والعراق بصورة عقائدية مسيحية (لاهوتية)، تأثر بها المسلمون وتفاعلوا معها، على النحو الذى عرضت له فى كتابى: «اللاهوت العربى وأصول العنف الدينى»، فلما استقرت دولة الإسلام فى بغداد، بيدِ العباسيين، وانفتح العرب المسلمون على الحضارات الأخرى واهتموا بنقل العلوم والمعارف من اللغات القديمة (اليونانية، السريانية، الفارسية، الهندية) إلى اللغة العربية، دخلت الفلسفة إلى المنظومة العقلية للعرب المسلمين، وتدفقت أنهارها لتروى الأذهان وتذهب بجفافها، فتوالى ظهور الفلاسفة العرب والمسلمين، وتتالت الجهود الفلسفية المؤسِّسة لبنيان العقل العربى الإسلامى.
والمتفق عليه تاريخياً، أن الفلسفة بدأت فى تراثنا المبكر مع إبداعات أفراد الرجال من أمثال الكندى (بكسر الكاف وسكون النون، نسبةً إلى القبيلة العربية: كندة) الذى اشتهر لاحقاً بأنه أول فلاسفة الإسلام، و«الفارابى»، الذى عُرف بالمعلِّم الثانى، على اعتبار أن «أرسطو» هو المعلِّم الأول للبشرية (وهى على كل حال، تسميات مجازية وألقاب ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها تدل على توقير الناس لهؤلاء الفلاسفة).
وقد تزامن دخول الفلسفة إلى المحيط الفكرى العام، العربى الإسلامى، مع حركة رفض فقهى للأفكار الفلسفية اليونانية القديمة، خشية التشويش على عقائد البسطاء من الناس، لذلك ظهرت منذ وقت مبكر، مواقف وعبارات تُزرى بالفلسفة والمنطق (الذى هو أداة التفكير العلمى والفلسفى)، مثل قولهم فى عبارة ساذجة ساقطة: مَنْ تمنطق فقد تزندق.. على أساس أن الزندقة (وهى كلمة غير عربية، تعنى الكُفر) قرينة لكل تفكير منطقى وفلسفى!
وعلى اعتبار أن العقيدة الإيمانية القويمة، بصرف النظر عن اختلاف العقائد وتضاربها، تُغنى الناس عن العناية بالمنطق والتفكير الفلسفى. كما أن الفلسفة والمنطق، حسبما كانوا يزعمون، يغنى عنهما الدين الإسلامى والنحو العربى! وهو ما نراه فى المحاورة المسرحية التى أوردها أبوحيان التوحيدى، مدعياً أنها جرت بين أبى بشر متى بن يونس (المنطقى) وأبى إسحق السيرافى (النحوى) وكانت الغلبة والظهور للنحوى منهما.
وقد استمرت النظرة المزرية إلى الفلسفة، على الرغم من امتداد الجهود الفلسفية والإبداعات المنطقية، حتى وقت متأخِّر من تاريخنا الثقافى، لدرجة أن شاعراً وصوفياً بديعاً مثل جلال الدين الرومى، قال: كافُ الكُفر أفضل من فاء الفلسفة، ولأننى أحب مولانا جلال الدين، وأعشق أشعاره، أرجِّح أن مراده كان اللجاج الفلسفى (السوفسطائى) لا الفلسفة ذاتها، لأنه كان فى واقع الأمر فيلسوفاً كبيراً وفناناً عظيماً، وهو الموقف ذاته الذى اتخذه مفكر بديع هو «أبوحامد الغزالى»، الذى حمل بشدة على الفلاسفة فى كتابه (تهافت الفلاسفة)، الذى وضعه بعدما أوضح مذهبهم فى كتابٍ أسبق جعله بعنوان (مقاصد الفلاسفة)، فالراجح عندى هو أن الإمام الغزالى كان يعلن رفضه كفقيه مسلم، لقول فريق من الفلاسفة بآراء ثلاثة ترفضها العقائد الإسلامية (القول بقدم العالم، القول بإنكار علم الله بالجزئيات، القول بإنكار الحشر الجسمانى يوم القيامة) وما عدا ذلك، فالغزالى لم يرفض الفلسفة فى عمومها، بل كان فيلسوفاً ومادحاً للمنطق بعبارته الشهيرة: مَنْ لم يدرس المنطق، لا يُوثق بعلمه.
وعند بزوغ فجر الفلسفة فى سماء الفكر العربى الإسلامى، خلال القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) ظهرت فى تراثنا موسوعةٌ فلسفية بديعة، فى عدة مجلدات، هى الكتاب المعروف بعنوان: رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا.. والغالب على رأى القدماء والمحدثين، أن الجماعة السرية المجهولة التى وضعت هذه الرسائل، هم دعاة المذهب الشيعى الإسماعيلى الذى مهَّد لظهور الدولة الفاطمية لاحقاً، فى إفريقيا (تونس ومصر)، وقد اجتهد بعض القدماء فى اكتشاف شخصيات كاتبى هذه الرسائل، وفى مكان كتابتها، وفى المقصود منها؛ فقالوا إن «ابن المقفع» كان واحداً من إخوان الصفا، وقالوا إنها ظهرت أولاً بالبصرة أو بمصر، وقالوا، بحسب ما أورده أبوحيان التوحيدى إن «إخوان الصفا» جماعةٌ رأت أن الشريعة قد دُنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية .. كانت تلك هى عبارة التوحيدى، الذى لا أثق كثيراً فيما يقول (مع أنه كان أديباً بارعاً وبليغاً) وقد تتبعتُ أوهامه وتهويماته فى دراسة قمت بها قبل سنوات، ونشرتها بعنوانٍ على هيئة سؤال: هل كان التوحيدى صوفياً أو فيلسوفاً؟ وانتهيت منها إلى أنه لم يكن هذا، ولا ذاك.
إذن، لدينا أقاويل كثيرة فى حقيقة «إخوان الصفا» وشخصياتهم التى حرصوا على إخفائها عن الناس، غالباً بسبب الرفض العام للفلسفة فى ذاك الزمان المبكر. ولكنها تبقى محض أقاويل تفتقر إلى الدليل، ولا تُقيم حجة واضحة على مزاعمها، والأدهى من ذلك أنها تصرف الأنظار عن نصِّ الرسائل ومحتواها، لتشغل الأذهان بالكلام المرسل عن الأشخاص المجهولين الذين كتبوا هذه «الرسائل» وحجبوا عن الناس أسماءهم، مكتفين بأنهم إخوان صفاء (وخلاَّن وفاء)، مستترين بذلك عن العوام، وغير مكترثين بإعلان «المؤلف» وإعلائه على «الفكرة» أو الأفكار الفلسفية العميقة، الواردة فى رسائلهم.
وقد ظل هذا (التوجُّس) من حقيقة مؤلفى الرسائل، سارياً فى الأجيال لعدة قرون، مع إعجاب صفوة الناس بما ورد فى هذه الموسوعة الفلسفية البديعة، التى نقل منها ابن خلدون فى القرن الثامن الهجرى، نصوصاً كثيرة لم يُفصح عن أصلها، فاعتبره البعضُ سارقاً ومحتالاً، لأنه لم يذكر المصدر الذى نقل منه هذه النصوص، بينما رأى البعضُ الآخر أن ابن خلدون أراد أن ينتفع الناس بما ورد فى «رسائل إخوان الصفا» فنقل منها ليحفظ نصوصها من الاندثار، ولم يستطع أن يصرِّح بالمصدر؛ لأنه يعرف رفض العوام وعموم الفقهاء لهذه الرسائل، المشهور عنها أنها من تأليف دعاة التشيع الإسماعيلى، وقد كان ابن خلدون يعيش بمصر وتونس، فى زمن سيادة المذهب السنى الذى يكره التشيع وأصحابه.
ونظراً لما سبق، فقد ظلت رسائل إخوان الصفا متوارية طيلة القرون التالية على زمن تأليفها، فلم تحظَ المكتبات العربية والإسلامية فى زمن (المخطوطات) بنسخٍ وفيرة منها، وكثيراً ما كانت توضع النسخ الخطية منها بغير عنوان، إيثاراً للسلامة.. ولما جاء زمن (المطبوعات) لم تصدر الطبعات الأولى من «الرسائل» فى المنطقة العربية، وإنما فى الهند! فكانت أولى طبعات الرسائل (غير كاملة) قد صدرت فى مدينة كلكتا الهندية سنة 1812 ميلادية، ثم صدرت الطبعة الكاملة لها فى بومبى سنة 1887، ومن بعد ذلك أصدرت مصر عدة طبعات فى القاهرة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وأصدرت بيروت عدة طبعات منها (مزوَّرة) فى النصف الثانى من هذا القرن الحزين.
■ ■ ■
والأفكار الفلسفية والعلمية الواردة فى (رسائل إخوان الصفا) عديدةٌ ومتنوعة، وبالغةُ الرهافة والدقة والجاذبية. منها قولهم إن الفضائل الإنسانية تأتى حين يتشبَّه الإنسان بالله! وكيلا يسارع أحد القراء الآن برفض هذه الفكرة على أساس دينى موهوم، لا بد من التذكير بأن ما يقوله إخوان الصفا لا يخرج عما ورد فى الحديث: إن لله مائة خُلق، وسبعة عشر خُلقاً، من جاءه بخُلُق منها دخل الجنة .
ومن أفكارهم الفلسفية الواردة فى الرسائل، قولهم إن الإنسان هو الكون الصغير، والكون هو الإنسان الكبير! وقد وضعوا فى ذلك فصلاً بديعاً بعنوانٍ دالٍّ هو (كيف نضدّ العالم بأسره) شرحوا فيه كيفية المقابلة بين الإنسان والكون. وهى فكرة فلسفية قديمة قال بها فى الزمن اليونانى «الرواقيون» وأفاض فيها شيخ الصوفية الأكبر محيى الدين ابن عربى، الذى عاش بعد إخوان الصفا بقرون (توفى سنة 638 هجرية) وتفنَّن فى بيان الأسرار الكامنة فى مقابلة الإنسان (العالم الصغير) لجميع الموجودات فى الكون (الإنسان الكبير) وزاد على ذلك، هو وبعض فلاسفة الصوفية اللاحقين، أن الحقيقة الإنسانية تقابل حقائق الوجود كلها، المادية منها والإلهية، عدا صفة الأحدية (والصمدية) التى يختص بها الله تعالى، ويتفرَّد بها عن خلقه.
ويعود الفضل لرسائل إخوان الصفا فى إحياء الفلسفة اليونانية القديمة، وبعثها فى ثوب عربى إسلامى يناسب السياق الثقافى الجديد الذى ابتدأ مع الازدهار الحضارى فى الفترة العباسية. فقد أعادوا توجيه الأنظار إلى التراث الفيثاغورى، الرياضى، وصاغوا الرؤى الفلسفية والرياضية والفلكية التى قدمتها الجماعة الفيثاغورية فى اليونان والإسكندرية، فى ثوبٍ عربى بديع. كما عكفوا على المفردات الفكرية للفلاسفة السابقين عليهم، وراحوا بحريةٍ تامة ينفخون النار فى رمادها، فتوهَّجت فى رسائلهم أنوار الحكمة القديمة التى أبرزوها فى شكل جديد، إسلامى الروح، عربى الفصاحة.
وإذا نظرنا نظرة سريعة إلى الموضوعات الواردة فى كشاف (رسائل إخوان الصفا) وفهرس العناوين المذكور تفصيلاً فى مقدمة هذه الرسائل، لأدركنا على الفور مقدار التنوع والإحاطة فى التناول، بالإضافة إلى النـزعة الموسوعية الجامعة فى الإطار الفلسفى العام بين النـزعة الإنسانية التى تهتم بالأخلاق، والاهتمام العلمى بفروع المعرفة المختلفة، وسلاسة الانتقال من علمٍ ومعرفةٍ إلى علمٍ آخر ومعرفةٍ أخرى، فى إطارٍ إبداعىٍّ دال على أن (رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا) مهما كان من حقيقة مؤلفيها المجهولين، ومهما كان من نسبتهم إلى المذهب الإسماعيلى، ومهما كان من توجُّس العوام وعموم الفقهاء.. فإن هذه «الرسائل» تظل واحدة من تجليات الحكمة فى تراثنا القديم، الممتد فى حاضرنا (سواء أدركنا ذلك الامتداد أو جهلنا به أو جهلنا عليه).
■ ■ ■


----------------------------------------------------------------------------

اعتقد بعضُ القراء أننى أوجزتُ القول فى المقالات السابقة، ولم أسهب بالقدر الكافى فى بيان الأعمال والمؤلَّفات التى تركها الأعلامُ الذين اخترتهم، ممثلين للحكمة العربية، خصوصاً عند الكلام عن كتب من نوع «رسائل إخوان الصفا» و«الحكم العطائية» و«الشامل» ومثلها من متون الحكمة التى ودَّ القرَّاء أن أفيض فى محتواها.. وفى حقيقة الأمر، فإن هذه (السباعية) لا تهدف إلى شرح النصوص وتبيان الإسهامات التى تركها حكماؤنا السابقون، وإنما مرادى منها التنبيه إلى «التنوع» الكبير فى تجلِّيات الحكمة العربية وتراثها السابق، وكيف أن هذه الحكمة لم تقتصر على العلماء الذين اشتغلوا بعلوم الطبيعة والطب، كابن سينا وابن النفيس، ولا على الذين اشتغلوا بالفقه والفتوى، كابن تيمية، أو بالترجمة كحنين بن إسحاق، أو كانوا من الصوفية كابن عطاء الله السكندرى.. فالحكمة «جوهر» ذو وجوهٍ كثيرة، متكاملةٍ، وكذلك الحال فيما يتعلق بالتراث العربى عموماً.
 فهو يشتمل على مكوِّنات وتفاصيل قد تبدو متباعدة، لكنها تعطى، مجتمعةً، معنى «التراث» الجامع فى تجلِّياته بين مناجيات الصوفية وأشعار الإباحيين، أدلة الفقهاء ورؤى الملحدين، الرصانة والخلاعة، الزهد وطلب الرياسة.. فالتراث منظومة متداخلة العناصر، وبالغة التعقيد والتنوع، ولا يمكن فهم جانب منها بمعزل عن الجوانب الأخرى الداخلة فى بنية (بناء) هذا التراث الذى نسمِّيه «العربى»، لأنه مكتوب باللغة العربية، ونعدُّه «الإسلامى» لأن الدين الإسلامى بمعناه الثقافى الواسع (لا العقائدى فحسب) كان الإطار العام الذى انتظم بداخله هذا التراث، حتى وإن كان المشاركون فى صناعته غير مسلمين. ولذلك، يُنظر إلى «موسى بن ميمون» على أنه فيلسوف إسلامى (مع أن ديانته كانت اليهودية)، ويدخل الأطباء الكبار من أمثال «يوحنا بن ماسوية، جبريل بن بختيشوع، سرجيوس الراسعينى» فى تاريخ الطب عند المسلمين، مع أنهم كانوا غير مسلمى الديانة.
ومن هنا، فإن هذه السباعية تفتح النوافذ على التجلِّيات المتعدِّدة للحكمة العربية، ولا تستهدف شرح المؤلفات وبيان السيرة الذاتية لهؤلاء الحكماء؛ وإنما تلقى الضوء على الدلالة العامة لحكمة هؤلاء، انطلاقاً من أن «الحكمة» ليس لها شكلٌ واحد. ولعل ذلك هو المعنى الوارد فى الحديث الشهير «الحكمة ضالَّة المؤمن».. والحديث الأشهر «اطلبوا العلم ولو فى الصين».. وبالطبع، فما كان أهل الصين يوماً مسلمين.
                                     ■ ■ ■
والشخصية السابعة التى نختتم بها هذه الإطلالة على نماذج من تجليات الحكمة العربية، هى شخصيةُ علاَّمة بديع، كانت حياته متطابقة مع كتاباته، وسيرته مصداقاً لأفكاره: جلال الدين السيوطى.. ولا بأس قبل بيان الدلالة العامة لما يمثله من «حكمة» أن نقدم عن حياته هذا الموجز الملخص.
فى القاهرة، سنة 849 هجرية، كان مولد جلال الدين السيوطى الذى اكتسب لقبه من مقر إقامة أبيه، الذى كان قاضياً بأسيوط (سيوط)، ولذلك قيل له السيوطى والأسيوطى، والأولى أشهر.. وقد توفى الأب وابنه جلال الدين فى سن الخامسة، لكن ذلك لم يمنع الطفل الصغير عن تحصيل العلوم التى كانت متاحةً فى زمانه، ولم يكن عائقاً له عن التتلمذ على يد كبار العلماء بمصر آنذاك.
درس السيوطى على يد عَلَم الدين البلقينى، وجلال الدين المحلِّى، والكافيجى (وغيرهم)، وبدأ بالتأليف والكتابة وهو فى سن السابعة عشرة، فاشتهر منذ الصغر وكثر من حوله محبوه وتكاثر أعداؤه.. وقد اختطَّ السيوطى لنفسه الطريق الذى رآه يليق بالعلماء، فلم يبتذل نفسه ويهنها من أجل التعلق بأصحاب السلطة، وكان لا يتردَّد على أبواب الحكام مثلما يحلو للكثيرين، وكتب عن موقفه هذا رسالةً بعنوان (ما رواه الأساطين فى عدم التودُّد إلى السلاطين)، فكانت نتيجة هذا الموقف، أن حنق عليه الأمراء المماليك الذين عاصروه، واغتاظوا من اعتزازه بنفسه، حتى إن «طومان باى» حاول الفتك بـ«السيوطى»، فاختفى الأخير عن الأنظار حتى عُزل طومان باى.. وفى المرات التى كان المماليك يستدعون فيها السيوطى، ولا يملك الفرار من الذهاب إليهم، كان يدخل عليهم فى لباس العلماء وهو الطيلسان (رداء كالعباءة)، ومن دون أن يحسر عن رأسه العمامة توقيراً لهم مثلما كان يفعل معاصروه. ولما لاموه على ذلك، كتب رسالتين طريفتين: الأحاديث الحسان فى فضل الطيلسان، دَرُّ الغمامة فى فضل الطيلسان والعمامة.
وقد بلغت مؤلفات السيوطى الستمائة، ما بين كتابٍ كبير ورسالة صغيرة. ولا يمكن بطبيعة الحال أن نستعرض هنا هذه المؤلفات، بل لا تكفى المساحة المخصَّصة لهذه المقالة لمجرد ذكر عناوين هذه المؤلفات (مع أنها عناوين طريفة تستحق الذكر)، ولذلك فسوف نكتفى بالإشارة إلى مجموعة من أهم هذه الأعمال وأكثرها شهرة: الإتقان فى علوم القرآن، المزهر فى علوم اللغة، الأشباه والنظائر فى الفقه، الأشباه والنظائر فى النحو، حُسن المحاضرة فى تاريخ مصر والقاهرة (لاحظ كيف فصل بينهما) الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير، جمع الجوامع، الشماريخ فى علم التاريخ (لاحظ أن كلمة «شمروخ» قديمة، ولم تظهر فجأة فى ملاعب الكرة المعاصرة).
ولا يمكن فهم التنوع والكثرة فى مؤلفات السيوطى، دون الانتباه إلى الدور الذى قام به العلماء المصريون (تحديداً) فى حفظ التراث العربى، منذ القرن السابع الهجرى.. فقد توالت الويلات على هذا التراث، ابتداءً بما جرى فى مصر من طمس آثار الدولة الفاطمية بعد نجاح صلاح الدين الأيوبى فى الاستيلاء على عرشهم، فامتدت أيدى المخرِّبين المتحدثين زوراً باسم الإسلام (السُّنى) وأحرقت مكتبات القاهرة الفاطمية، بدعوى أنها تضم التراث الشيعى. ومن الجناح الشرقى للعالم الإسلامى اجتاحت النواحى موجات المغول الهمجية، حتى وقعت الكارثة الكبرى (سقوط بغداد سنة 656 هجرية)، وقام الغزاةُ عن عمدٍ بطمس التراث العربى بإلقاء الكتب «المخطوطات» فى نهر دجلة، لإزالة نصوصها وليس لعبور الخيل فوقها، حسبما يظن الجهلاء. ومن الجناح الغربى تتالت الحروب التى خرج بعدها المسلمون من الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 897 هجرية (فى حياة السيوطى) وتولَّى الرهبان إحراق الكتب العربية ولاتزال آثار النار شاهدة على ذلك، فيما بقى إلى اليوم من مخطوطات دير الإسكوريال بإسبانيا.
ولأن مصر لم تسقط بيدِ الغزاة القادمين من المشرق أو المغرب، ولأن موجة التشدُّد الدينى (السُّنى) انحسرت بسرعة بعد «هوجة» الأيوبيين وسقوط دولتهم، ولأن علماء مصر شعروا بأن الأخطار محدقة بعقل الأمة بسبب تدمير التراث وإحراق الكتب.. بدأت فى مصر، فجأة، حركة تدوين واسعة منذ القرن السابع الهجرى. تستهدف إعادة كتابة التراث العربى، المهدَّد بالاندثار آنذاك (مثلما هو مهدَّد الآن) فظهرت فى مصر الموسوعات المبسوطة والكتب الكبار، مع أن جهود علماء مصر حتى القرن السادس الهجرى لم تعرف هذا النوع من التأليف، وكانت أعمالهم تأتى فى الغالب الأعمّ على هيئة رسائل صغار وشروحٍ مختصرة، وكتبٍ غير ذات أجزاء.
فى مصر خلال القرن السابع الهجرى، كتب ابن النفيس موسوعة «الشامل فى الصناعة الطبية» مع غيرها من مؤلفاته فى الفقه والطب واللغة والأدب. وفيها خلال القرن الثامن كتب ابن منظور «لسان العرب» وابن فضل الله العمرى «مسالك الأبصار» وجمال الدين الوطواط «مناهج الفكر ومباهج العبر» والنويرى «نهاية الأرب» وغير ذلك من مؤلفاتهم الأخرى المتنوعة. وفيها فى القرن التاسع كتب القلقشندى «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» وابن حجر العسقلانى «فتح البارى بشرح صحيح البخارى» وشمس الدين السخاوى «الضوء اللامع»، وفى مصر أيضاً، كتب السيوطى ما ذكرناه وما سوف نذكره.
ولم تتوقف هذه الحركة (المصرية) لإعادة تدوين التراث العربى، بأشكاله المتنوعة، بل ظهرت بمصر أعمال تأليفية ضخمة فى الفترة المسماة «عصر الانحطاط»، ففى القاهرة كتب مرتضى الزبيدى (المتوفى 1201 هجرية) موسوعته اللغوية «تاج العروس من جواهر القاموس» وكتابه الواقع فى عشر مجلدات «إتحاف السادة المتقين فى شرح إحياء علوم الدين». وكتب بعده بقليل، شيخ الأزهر أحمد الدمنهورى: عين الحياة فى استنباط المياه (حفر الآبار)، القول الصريح فى علم التشريح، الكلام اليسير فى علاج المقعدة والبواسير، شرح إيساغوجى فى المنطق.
                                     ■ ■ ■
إذن، كان السيوطى فى واقع الأمر يستكمل مساراً مصرياً حافلاً بجهود علماء سابقين عليه ولاحقين من بعده، وكانوا إما من أهل مصر أو من الوافدين عليها واللاجئين إليها من أطرافها الشامية واليمنية والتونسية.. وقد جاء استكماله لهذا المسار ثرياً بديع التنوع، وكأنه يرصد فروع المعرفة ومناحى الحياة كلها، فبالإضافة إلى المؤلفات الفقهية والتاريخية واللغوية التى ذكرناها للسيوطى، كتب أيضاً: منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف، الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف، تحفة الكرام بخبر الأهرام، الجلَد عند فَقْد الولد، برد الأكباد عند موت الأولاد، عقود الجمان فى تأديب النسوان، الجواهر الثمينة فى محاسن المرأة السمينة، الوشاح فى فوائد النكاح، نواضر الأَيْك فى نوادر الـ... (لا أستطيع كتابة العنوان كاملاً).
ولا يفوتنا هنا، أن واحداً من أشهر مؤلفات السيوطى وأكثرها تداولاً حتى اليوم، هو كتاب «تفسير الجلالين» الذى استكمل فيه تفسير القرآن الذى تركه أستاذه جلال الدين المحلِّى ناقصاً، فأكملَه السيوطى وصار التفسير منسوباً للجلالين: المحلِّى، والسيوطى.
وعلى الرغم من نبوغه المبكر، وثرائه المعرفى، عانى «السيوطى» فى حياته من ويلات كثيرة ولحقت به البلايا من أهل زمانه، وكانت له خلافاتٌ مريعة مع علماء عصره من أمثال شمس الدين السخاوى الذى نشر عنه السيوطى كتاباً بعنوان (الكاوى لتاريخ السخاوى) وبرهان الدين الكركى الذى كتب عنه السيوطى رسالة (الدوران الفلكى على ابن الكركى) وغيرهما من أهل زمانه، كالقسطلانى.. كما كان السيوطى متولِّياً أمور «الخانقاه البيبرسية» أى مديراً لها، فامتدت الخلافات إلى داخل الخانقاه (بيت الصوفية) وثار عليه جهلاء الدراويش، وكادوا يفتكون به، لولا انفلت منهم.
وغلب الأسى على قلب السيوطى، وعمَّ الغمُّ، فرأى الواجب عليه أن يهجر الناس جميعاً، ويعتزل تماماً فى بيته بالروضة. وكان آنذاك قد بلغ الأربعين، بعد عشرين عاماً أمضاها فى ملاحقة المكائد (العشرون سِنُّ الفتوة، والأربعون بدء الوحى والنبوة) ولم تفلح محاولات المحيطين بالسيوطى، فى إثنائه عن الخلوة والاعتزال الكامل للناس. حتى إن واحداً من كبار العلماء الذين كانوا على عداء معه، وهو القسطلانى، شعر بالندم على ما اقترفه فى حق السيوطى فخلع نعليه ومشى حافياً من بيته فى القاهرة إلى خلوة السيوطى فى الروضة، كى يسترضيه ويدعوه إلى العودة معه والاختلاط مجدَّداً بالناس. فأبى السيوطى وأصرَّ على هجران أهل زمانه والتفرُّغ تماماً للتأليف، فكانت مؤلفاته (كتبه الكبار والصغار) التى بلغت من الكثرة فى العدد والتنوع فى الموضوعات، هذا الكمّ الكبير الذى نادراً ما استطاع العلماء الوصول إلى نصفه..
وكان أول ما كتبه بعد خلوته واحتجابه عن الناس، رسالة بعنوان (التنفيس فى الاعتذار عن عدم الإفتاء والتدريس) كما ألَّف فى ذلك رسالة أدبية (مقامة) تفيض حسرةً ومرارة من أهل الزمان وأفعالهم، عنوانها: المقامة اللؤلؤية.. وفيها يقول: رأيتُ نظام العلم قد فسد، وسوق الفضل قد كسد، ووقع التساوى بل التقديم للهرة على الأسد، وامتلأ كل جسدٍ بالحسد، وساد الجاهلُ بما إليه وسدٌّ وسد، وكاد العالم يجر من عنقه بحبل من مَسَد.. فتركتُ التدريس والإفادة، والإبداء والإعادة