صار واضحاً لكل مَن يتأمل المشهد المصرى المعاصر، المتدفقة أحداثُه على نحو يُحَيِر العقول والأفهام، أن هناك توافقاً على إبقاء الفورة وإجهاض الثورة . بمعنى تغييب المفهوم العميق للثورة التى اندلعت أواخر يناير الماضى، واستمرار الفوران والهياج قائماً فى ربوع البلاد، لأسباب علنية، وأخرى خفية، وثالثة تآمرية. وهو الأمر الذى يظهر عبر عدة تجليات، منها مايلى: الترديدُ الأجوف لعبارة «الثورة المصرية لن تموت» من دون بيان لماهية هذه الثورة.. توالدُ ما صار يسمى «المطالب الفئوية»، التى هى أقل بكثير من الغايات السامية للثورة.. تفاقمُ الأزمات المفتعلة وتهييج السواكن لإشاعة القلاقل.. الاعتصاماتُ والاضطراباتُ والاستهاناتُ الفَجة بكل القواعد، ابتداءً بقواعد المرور حتى القوانين والأعراف الدولية. وهذه كلها دلائل على استبقاء الفوران، لأغراض متعددة لدى أصحاب المصالح، وهى فى الوقت ذاته استبعادٌ للقيمة الجوهرية للثورة المصرية وإجهاضٌ لها.
■ ■ ■
قامت الثورة المصرية أصلا، ضد حالة الاحتقار الحكومى للناس، وقد أثبت «الجمهور» من خلالها أنه أقوى من حكامه. كما قامت للقضاء على مشروع توريث الحكم (الجمهورى) وقد قُضى عليه، وللمطالبة بإزاحة رئيس الجمهورية عن الكرسى الذى التصق به، وقد أُزيح، ولمحاسبة رموز النظام السابق ومحاكمتهم، وهم الآن يُحاكمون. ثم أعلن جمهورُ الثائرين أنهم يطمحون إلى بناء دولةٍ تقوم على القيم الإنسانية: المساواة والعدل والحرية، وهو الأمر الذى يستلزم العمل الطويل الشاق لإصلاح ما أفسده الدهر خلال الثلاثين عاما (المباركية) والستين عاما (الضباطية الأحرارية).. ولكن بدلاً من التعاون من أجل هذا البناء، انتشر التنازع، فتوالى التخريب وصرنا نتدهور على الصعيد العام ونتقهقر يوماً بعد يوم.
وفى هذه السباعية، نقوم بتحليل الأسس التى يعتمد عليها التخريب الثورى الهادف إلى إجهاض الروح الحقة للثورة، وإبقاء الفوران والتوتر المؤدِى إلى التدهور العام.. وأول هذه الأسس، فيما أرى، هو المعنى الذى جعلته عنواناً لهذه المقالة مُكرِراً به عنوان مقالةٍ كتبتها قبل سنوات.
فقبل عشرين عاماً، مرت بنا حالةٌ من الإعتام الذهنى والذهول تشبه ما نمر به اليوم، لكنها كانت تجرى وقتها على نحوٍ أخفَ بكثيرٍ مما نعانيه اليوم ونعانى منه، لأن المصيبة التى وقعت آنذاك بدت لنا أخف وقعاً وأقل تأثيراً. فأيامها، فوجئ الناسُ بغزو «صدام» للكويت، وهو الأمر الذى تطوَر بسرعة إلى مواجهة عسكرية بين أمريكا (والحلفاء العرب والأوروبيين) والجيش العراقى بزعامة صدام.
فكانت المأساة المعروفةُ بحرب الخليج الثانية، على اعتبار أن حرب الخليج الأولى وقعت قبلها بسنوات بين صدام حسين ونظام الملالى وآيات الله فى إيران.. ومع أن عشرات الآلاف من العراقيين لقوا حتفهم أيامها، بغير حقٍ ولا هدىٍ ولا صراطٍ مستقيم، إلا أن بعضهم اعتبر ما يجرى على الساحة العراقية ليس حرباً، بل هو أقرب إلى ألعاب الفيديو (حيث يتخذ كل إنسان فى العالم موقعه الاستراتيجى أمام شاشة التليفزيون، كى يرى أنواراً تبرق فى الظلام، ثم يسمع عن عدد القتلى، من دون أن يشاهد جندياً يقاتل الآخر على الأرض.. الفيلسوف الفرنسى «بودريارد» هو الذى كتب ذلك).
أيامها، أطلق صدام على الصحراوات الإسرائيلية صواريخ غير مؤثِرة إلا فى نفوس العرب، وهى التى وصفها الرئيسُ المصريُ المتنحى (المتنيح) مبارك آنذاك بأنها نوعٌ من «البمب» قاصداً بذلك السخرية منها، لأن حكام العرب عموماً لا يحبون محاربة إسرائيل، ولو كذباً وزوراً. المهم، أن المآسى التى كانت متوقعة من حرب العراق وقعت، ولاتزال تقع إلى اليوم، ولا يعلم إلا الله متى سوف تتوقف. وفى تلك الأيام سادت بمصر حالة من (التوهان) والاضطراب فى الإدراك، وتضاربت الآراء، وقلَ الفهم وكثر الكلام.. تماماً مثلما يحدث اليوم.
وأيامها، انعقد مؤتمران إسلاميان كبيران، أحدهما فى بغداد برعاية «صدام» والآخر فى الرياض برعاية حكام الخليج. وكان كلا المؤتمرين يهدف إلى بيان حكم الدين (الإسلامى) فى الحرب التى كانت على وشك الوقوع، وقد انتهى كلاهما إلى أن الدين القويم يقف إلى جانبه، والطرف الآخر خارج عن الشرع، وقتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار.. كلاهما قال ذلك، وقدم عليه الأسانيد الشرعية.
وأيامها، كتبت مقالةً فى جريدة الأهرام (يوم كانت الكتابة فى الأهرام شرفاً كبيراً)، وكان عنوان المقالة، هو عنوان مقالتى اليوم: المواجهة مع الجنون.. وهو أحد المفاهيم التى استعرتها، لفظا ومعنى، من فلسفة «ديكارت»، التى عرضها فى كتابه الشهير (التأملات)، واصفاً رحلته العقلية من الشك إلى اليقين، والمراحل التى قطعها، ابتداءً من افتراض أن كل ما نراه من حولنا هو وهمٌ وخيالٌ لا حقيقة فيه، لأن الحواس مضلِلة، وقد يكون هناك شيطان ماكر يسعى لتضليل العقل وتبديد اليقين، ومن ثم فإن الإنسان العاقل لابد له من الشك فى وجود العالم، والشك فى وجود الله، والشك فى وجود ذاته أيضاً.
وهنا تكون حالة «المواجهة مع الجنون» نظراً لانعدام اليقين فى كل الأمور، وعدم قدرة العقل على الإمساك بأى حقيقة فى غمرة الشكوك الكثيرة ثم يخرج ديكارت من ذلك، بخطوة يسميها دارسو الفلسفة (الكوجيتو) أو إثبات وجود الذات، وذلك على أساس القاعدة المشهورة : أنا أشك إذن أنا موجود. لأنه مهما أحاط بنا ظلام الشك، فهو لن يحجب عنا حقيقة أننا الآن نشك، أى نفكر، أى موجودون . ولأن الشك نقصٌ، فهذا يفترض وجود كائن كامل (إله)، وإلا ما كان من الممكن لنا إدراك هذا النقص الموجود فينا، إلا بالقياس على الوجود الإلهى الكامل . ولأن الله كامل، وعادل، فلن يسمح للشيطان الماكر بالسيطرة على عقولنا.
ومع أن هذه المسيرة العقلانية (الديكارتية) الممتدة من الشك إلى اليقين، تُعجب كثيرين، إلا أننى أراها أقرب إلى النزعة المسرحية «المسطحة» بأكثر مما هى قريبة من التفلسف العقلانى الأصيل. لكن الذى كان يهمنى منها قبل عشرين عاما، ويهمنى اليوم، هو تلك الحالة المسماة: المواجهة مع الجنون.. وهى الحالة التى تحدق بنا اليوم، مثلما أحاطت بنا قبل عشرين عاماً بدرجة أقل مما يجرى اليوم، وما سوف يجرى غداً.
إن العقل الجمعى فى مصر، والعقل الفردى أيضاً، صار يواجه فى الفترة الأخيرة حالةً مريرة من انعدام الفهم، وفقدان القدرة على الإدراك، والعمى عن الرؤية الكلية للوقائع. وهو ما يقود بالضرورة إلى حالة «المواجهة مع الجنون»، التى تتجلى فى قولنا لبعضنا بعضا، بالعامية: «ماحدش فاهم حاجة، إحنا مُش عارفين رايحين على فين، هىَ شكلها كده باظت، ياعم مفيش فايدة، الثورة دى خربت بيوتنا، دى أصلاً مُش ثورة، مبارك لسَه بيحكم مصر».. إلى آخر هذه التعبيرات وأمثالها.. ثم