USATODAY.com News

Friday, October 28, 2011

حسام تمام




كنت أقف فى انتظاره وهو يقترب منى داخل الاستوديو وأنا متعجب ومعجَب بهذه الصلابة التى تستند إلى عكازين! رغم نحول قوته وضعف ساقيه عن تحمل جسده واستناده -مع العكازين- على زميل يأخذ بيده ثم يأخذ عكازيه بعيدا حين يجلس على المقعد أمامى بإعياء محارب، كنت أحيى -منبهرا- هذه الصلابة الحقة، كيف يحضر لى أسبوعيا من سرير مرضه فى مستشفى يتلقى فيه علاجا كيميائيا لخلايا السرطان التى تغزو كعدو خبيث شرير ومراوغ وعدوانى، رئته ثم دماغه ثم يكون هذا الدماغ على درجة من الذكاء والصحوة والقدرة على الرؤية والتحليل العميق القادر على النفاذ فى جيولوجيا التيارات الإسلامية.
إذا لم يكن هذا هو الإيمان، فماذا يمكن أن يكون فعلا؟!
كنت قارئا متابعا ومخلصا لكتابات حسام تمام، الباحث الشاب والمفكر النابه والمحلل الاستثنائى والمتفرد فى فهم وشرح وتحليل التيار الإسلامى على مستوى الأفكار والحركة، الرؤية والاستراتيجية، الأفراد والجماعات، يملك مفاتيح خريطة التيارات الإسلامية ويفك شفرتها وكل رموزها. واحتفظ حسام طول الوقت بهذه المحبة الدفيئة للتيار الإسلامى، لكنه كان حريصا على أن يقرأه بعقله، لا بقلبه، يحلله ليضيف إليه مصححا ومصحصحا، يفنده ليفيده، وينقضه ليقويه، وينقده لينقيه، كان صريحا دون أن يجرح، وكان مستقيما بلا لف أو دوران أو مراوغة فى المعنى أو الدلالة. لغته فى التحليل المكتوب كما لغته فى التحليل الشفاهى، رشيقة وعذبة ومفصلة ومفسرة بهدوء، لا مثيل له عند كثير من محللينا وكتّابنا الذين يتوترون وينفعلون عندما يحبون وحين يكرهون، والذين يبخسون الناس أشياءهم أو ينفخون الناس بأهوائهم. حسام تمام نسيج وحده، ليس هذا احتفاء به، بل احتفال بمثل ما فيه وقيمة ما يحمله.
الباحث حين تغزر معلوماته تصيبه بدوار التشوش، وحين يصادق مصادره ومبحوثيه تتآكل موضوعيته، لكن حسام تمام مغموس ومنغمس فى واقع التيار الإسلامى ومنتمٍ، ربما، ومقترب للغاية ومتورط أحيانا، إلا أنه فى ساعة الجد وحيث يكتب أو تطلب كلمته أو ننتظر رؤيته يتجرد من كل الدخائل العاطفية ويبقى هذا العقل المحايد مثل جرّاح فى غرفة العمليات يقدّر للمشرط موضعه!
ما سر هذا الرجل بحق؟
لماذا بدا هكذا أكثر اتزانا وتوازنا من أن يكون حقيقة؟
كيف صار هذا العقل المخلص متخلصا من كل عيوبنا ونافرا من كل إغراءات أن تثرثر وتقول كلاما منفوخا ومجعوصا ومعقدا فيعتمدونك مفكرا فى هذا الشأن ومتخصصا فى هذا المجال؟
لماذا كان حسام تمام أمينا مؤتمَنا على علمه إلى هذا الحد الأقصى الذى يجعله مثاليا، لا مثالا، ويجعله وحيدا لا واحدا؟
الإجابة أنه كما أن هناك إنسانا ابن موت، فإن حسام تمام كان باحثا ابن موت!
تحمست له كقارئ شغوف بمعرفة ما لا أعرف ومنذ بدأت إعداد حلقاتى التليفزيونية، فكرت فعرضت على حسام أن يكون ضيفى الأسبوعى لمناقشة وتحليل الحالة الدينية والحركات الإسلامية فى توقيت صعدت فيه للسطح علانية الإخوان المسلمين وطفت فيه على الواقع أفكار وتحركات السلفيين، واستردت فيه الجماعة الإسلامية شريان حياتها، وفى ذات اللحظة التى اقترحت عليه الفكرة، فتحمس ووافق، فاجأنى بخبر إصابته بالسرطان وأنه بصدد كشوف طبية وتحاليل وأشعة ومشروع علاج كيماوى. قال كلامه بذات الروح المطمئنة والنبرة الهامسة والاستقامة اللغوية الواثقة، وبهدوء يثير صخب الأفكار داخلك عن قوة هذا الكائن الذى يتجلد أمام المرض ويمسك بحبل إيمانه كأنه حبله السرى المتصل بروحه والمتواصل مع الله صلاة بركوع وسجود العين والزفير والشهيق بذات الحرص على ركوع بالجسد وسجود بالرأس!
وكان منتظما فى المشاركة بالبرنامج قادما إليه كل مرة بعكازين يتوكأ عليهما، وحين يبعدهما عن الكاميرا يمد لنا جميعا ألف عكاز لنفهم ما لا نعيه ونستوعب ما لا ندركه فى الظاهرة الإسلامية ويبث فىّ وفيكم طاقة العلم والتعلم وتفتّح العقل وانفتاح القلب على استيعاب المختلف واحتواء المخالف وفهم ما غمض.
أعرف السرطان ورأيت شرّه الخبيث يتجول فى غُدد خالى الكبير وقد حرمنا من ضحكته الصافية وروحه المرحة وأبوته الحانية، وقد كان السرطان يأكل من قوّته كل صبح فيطفئ مصباحا فى روح خالى كل ليل.
وقد علمنى حسام تمام -وهو يأتى إلى البرنامج فى آخر حلقاته جالسا على مقعد متحرك- أن فى قمة العجز تكون قوة التسليم، لا الاستسلام، ظل متابعا ومحللا ومتنبها وقارئا وكاتبا، وهو فى المستشفى لم يبرحه إلا للقاء البرنامج، ثم يعود مربوطا بالمحاليل والأسلاك والأجهزة ومغمورا بالامتحانات الإلهية لصبره وتحمله، وهو ينظر فيرى زوجته الشابة الصبور المؤمنة التقيّة، وأطفاله الأبرياء المتشبثين بعيونه المتوسلين إلى الله -عز وجل- أن يُبْرِئ أباهم من علته ويأخذ بيده إلى منزلهم فيغمرهم بحبه ويلثمهم بعطفه وحنيّته، ولكن الله بحكمته يأبى أن يتم لهم الشفاء حتى يشفينا من غرور الدنيا بأن يأخذ من بيننا النبيل الرقيق الطاهر العذْب، ويبقى فينا ومعنا شِرارنا!
قبل يومين فقط من وفاته -وقد شق صدرى صوته الواهن الضعفان المتقطع المفتت الحروف- اتصل بى ليطلب منى شيئين: الأول أن أكتب مقدمة كتابه الذى أرسله إلىّ من سريره فى غرفة العناية المركزة وأدفع به إلى «دار الشروق» وأوصانى أن أؤكد أنه لم يقصد أى إساءة إطلاقا لجماعة الإخوان المسلمين، وهو يحللها ويكتب عنها صفحات فصوله وأنه يحترم أفكارها وأعضاءها ورسالتها، ولكنه أيضا أراد للجماعة وللجميع أن يعرفوا إلى أين يذهب الإخوان؟ فى قراءة أمينة دقيقة لعلها تعود بالخير على الجماعة إن استوعبت وقدرت، وعلى جمهور الأمة وقرائها إن هم عرفوا وأدركوا.
الشىء الثانى أنه أراد منى أن أرد على تليفونه حين يطلبنى بعدما يموت، قاصدا أن زوجته الثكلى أو أبناءه الغاليين سيتصلون بى من نفس الرقم، فضربنى الرجل برقته وكرمه ومحبته فى أوجع ما فى داخلى ضعفا!
يا لَوعى على حسام تمام صديقى الذى منحه الله لى شهورا، ثم سلبه منى ومنا ليُودِعه جنته حيث خلد الخالدين وطمأنة المطمئنين وحيث لا موت ولا سرطان.
الله يرحمك يا حسام لا ندعو لك، بل نسألك الدعاء.

No comments:

Post a Comment