USATODAY.com News

Thursday, August 25, 2011

سليمان خاطر

عمر طاهر

فى أكتوبر 98، قررت (مع نفسى) أن أزور قبر سليمان خاطر لأقرأ له الفاتحة.
زيارة تحولت لتحقيق صحفى كان له فضل كبير فى دعم خطواتى الأولى فى عالم الصحافة.
كان خاطر علامة استفهام كبيرة فى طفولتى عندما كانت تروى حكايته كجندى مصرى على الحدود قتل وأصاب سبعة إسرائيليين، وتم تحويله للمحاكمة، واستيقظت مصر كلها فى يوم على خبر انتحاره فى زنزانته.
اتجهت إلى الزقازيق، وهناك لم أجد صعوبة فى الوصول إلى منزله، فالجميع يعرفونه، من الزقازيق وحتى قريته التى تبعد عنها أكثر من 40 كيلومترا.
(2)
أمام بيته يوجد مصنع بلاط وضع فوقه لافتة كبيرة كتب عليها «مصنع بلاط الشهيد سليمان خاطر».. تذكرت هذه الجملة بعد سنوات وأنا أمشى فى شوارع العاصمة الإيرانية طهران، لأجد نفسى فجأة أقف أمام لافتة كبيرة مكتوب عليها «خيابان شهيد سليمان خاطر».. خيابان بالفارسية تعنى «شارع». كنت أقف تماما فى منتصف واحد من أجمل شوارع طهران يحمل اسم خاطر، وددت وقتها أن أصافح كل من يعبرونه لأقول لهم «أنا بلديات هذا الرجل».
دخلت أسأل عن أهله، فقابلنى صديق عمره وزوج شقيقته اسمه أحمد العوضى، قال لى بعد أن قدم لى الشاى «العائلة لا تتحدث إلى الصحافة منذ توفى سليمان»، قلت له: وأنا أقسم لك إنى قادم لزيارته وقراءة الفاتحة على روحه.. انس أنى صحفى، لفنا الصمت لثوانٍ قبل أن يدخل علينا الحاج عبد المنعم خاطر شقيق سليمان الأكبر، قلت له الكلام نفسه فقال «بس أنا عايز أتكلم».
(3)
كان سليمان فلاحا بسيطا فى غاية التواضع محبا لأشقائه وأهل بلدته وكان شقيقه الأكبر يعمل فى الكويت، وبعد أن تحسنت ظروف الأسرة قليلا قرر سليمان أن يسافر ليعمل معه هناك، كان سليمان لا يزال طالبا فى كلية الحقوق، فقرر أن يضرب عصفورين بحجر، وأن يتقدم للجيش لتأدية الخدمة العسكرية حتى يتمكن من السفر.. قرر أن يتقدم لها بصفته حاصلا على الثانوية العامة، على أن يقوم بالمذاكرة والحصول على المؤهل الجامعى فى أثناء وجوده بالخدمة، وبذلك يختصر وقتا طويلا فى سبيل السفر.
فى البداية تم تجنيده فى مخابرات الاستطلاع، ثم تم نقله إلى قوات الأمن المركزى فى سيناء.
كان سليمان -والكلام لصديق عمره- يتعامل مع الجيش بقدسية شديدة، كان يدهشنى، وأنا ضابط سابق بالجيش، بالطريقة التى يعتنى بها بسلاحه، كان يحفظ رقم سلاحه مثل اسمه وكانت لديه القدرة على فكه وتنظيمه وإعادة تركيبه عدة مرات فى وقت قياسى.
(4)
علاقة سليمان بالجيش بدأت قبل تجنيده بكثير..
بيت سليمان يبتعد كيلومترات قليلة عن مدرسة بحر البقر.
يوم قصف الطيران الإسرائيلى لهذه المدرسة ذهب هو وصديقه وكانا طفلين إلى موقع القصف وساعدا فى انتشال جثث الأطفال -الذين كانوا فى مثل عمرهما- من تحت الأنقاض.
المسافة ما بين بيت سليمان وبحر البقر تحولت فى ما بعد إلى معسكرات تابعة للجيش، وكانت متعة سليمان الأولى فى طفولته أن يقف يوميا على الجسر ليتابع الجنود فى طريقهم من الإسماعيلية إلى المعسكرات أو العكس.
كانت أمه تخبز وتجهز القشدة والجبنة وتقف على الجسر وسليمان إلى جوارها يستوقفان الجنود فى ذهابهم أو إيابهم ليوزعا عليهم الطعام.. كان يسألهم بالاسم عن أقاربه الكبار الموجودين على الجبهة فكانوا يبتسمون له دائما قائلين «جايين ورانا».
(5)
مهارة سليمان والتزامه كانا كافيين ليصبح حكمدار نقطة الحراسة على الحدود..
إلى أن جاءت الليلة التى انشغل فيها بقية أفراد الخدمة فى إحضار التعيين (طعام العشاء)…
ونما إلى أسماعهم من بعيد صوت يشق سكون الصحراء..
كان صوت شخص ما يشد أجزاء سلاحه الآلى.
1)
فى أواخر أيام سليمان خاطر كان دائم الشكوى من وضع الإسرائيليين فى سيناء وتصرفاتهم المهينة والمستفزة التى تتكرر يوميا، وقص على أهله ذات يوم أن الإسرائيليات عبرن ذات مرة السلك الشائك، فأقام خاطر ورفاقه مانعا آخر.. لكنهن عبرنه أيضا ودأبن على استفزازه بنزول المياه وهن عرايا تماما.
يقول صديق سليمان «عندما استمعت إلى الحادثة من إحدى الإذاعات الأجنبية كنت متأكدا أن سليمان خاطر هو الذى فعلها على الرغم من أنهم لم يعلنوا اسم الجانى، هو على الأقل لم يخطط لأن يفعل هذا، فعندما قابلته فى السجن لأول مرة بعدها سألته لماذا فعل هذا فقال «اللى حصل كان خارج إرادتى.. هما اللى استفزونى».
(2)
فى تمام الساعة السادسة مساء يخيم الظلام على نقطة المراقبة المسؤول عنها سليمان خاطر، بعد هذا الوقت إذا عبر أى شخص هذه المنطقة لا بد أن يقول «كلمة سر الليل»، وهو أمر لا يقبل الاستهتار.. فإذا مر ضابط مصرى لا يعرف كلمة سر الليل بهذه المنطقة يتم شهر السلاح فى وجهه، ويتم ترقيده على الأرض، وعليه أن يخاطب العسكرى المشرف على الخدمة كأنه يخاطب مصر نفسها.
كان خاطر حكمدار هذه النقطة، وقبل الواقعة الشهيرة اجتازت فتاة إسرائيلية -برواية سليمان لصديقه- الحدود وتعرفت إلى أمين شرطة فى نفس نقطة عمل سليمان، وفى مرة زارت الأمين فى موقعه وخدرته وحصلت منه على رقم الشفرة السرى وسرقت جهاز اللاسلكى الخاص به، وتمت محاكمة الأمين.
ليلة 5 أكتوبر 85 اخترق بعض الإسرائيليين المنطقة الحدودية باتجاه النقطة التى يشرف عليها سليمان، حاول أن يمنعهم من التقدم مستخدما اللغة الإنجليزية، ويقول صديق سليمان: ربما لم يفهموا ما قاله.
(كان بين هؤلاء الإسرائيليين رئيس المحكمة العسكرية الإسرائيلية وضابط برتبة رائد، أى أنهم على مستوى ثقافى يؤهلهم للإلمام ببعض الكلمات الإنجليزية البسيطة على الأقل مثل Stop أو no passing).
كان سليمان بمفرده بينما بقية فريق المراقبة يقوم بإحضار طعام العشاء، شد سليمان أجزاء سلاحه، وهى حركة تعنى فى اللغة العسكرية أنه سيقوم بالضرب فى المليان.
لم يكن الموقف يسمح بإبلاغ الرتب الأعلى، خصوصا بعد أن تمادى الإسرائيليون -حسب رواية سليمان- فى استفزازه بأن بصقوا عليه وبصقوا على علم مصر وسبوا كليهما، حاول سليمان أن يرهبهم بتصويب السلاح ناحيتهم، فما كان من الضابط الإسرائيلى الموجود ضمن المجموعة إلا أن أخرج طبنجته وأطلق النار باتجاه سليمان فخرج الأمر من يد سليمان وبدأ يحصدهم بسلاحه فأسقط سبعة إسرائيليين بين قتيل ومصاب.
فى هذه الأثناء لمح سليمان فى الظلام طفلة تجرى مذعورة فجرى ناحيتها وسلمها لأحد زملائه طالبا منه العبور بها لتسليمها لنقطة الحدود الإسرائيلية.
التف حوله زملاؤه وكانوا خائفين، وطلبوا منه أن يسلمهم سلاحه، لكنه رفض وطلب منهم استدعاء القائد العسكرى للمنطقة، وصل إليه القائد (كان اسمه الرائد أحمد الشيخ) فسلم سليمان نفسه وسلاحه له.. بعدها تم نقله لسجن الفنارة الحربى تمهيدا لمحاكمته.
(3)
فى أول زيارة له فى السجن قال لشقيقه «تخيل أنا النهارده فى السجن مع المتهربين من أداء الخدمة العسكرية؟ أنا اللى دافع عن تراب البلد موجود مع العيال الهربانة من الجيش!».
كانت المحاكمة سريعة..
حضر مع سليمان عشرات المحامين يدافعون عنه بقيادة نقيب المحامين الأسبق أحمد الخواجة.
بعد إعلان الحكم وقف سليمان يهتف بحرارة «تحيا مصر.. تحيا مصر»، وكان هتافه مختلطا بحالة من البكاء الشديد.
كان الحكم عليه بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة.

(1)
كان التليفزيون المصرى يبث مباراة كرة قدم بين الأهلى والمنصورة، ثم انقطع الإرسال فجأة.
(2)
بعد صدور الحكم اقترب رئيس هيئة المحكمة -والرواية لأحمد العوضى زوج شقيقة خاطر- من سليمان. قائلا له: «انت ابننا يا سليمان وهتفضل فى قلوب المصريين.. لكن القانون قانون».
دفاع سليمان عن نفسه فى أثناء المحاكمة يمكن تلخيصه فى جملة واحدة قالها لهيئة المحكمة العسكرية «أنا دافعت عن الأفرول اللى أنا وأنتو لابسينه».
قبل المحاكمة عرض الجنود وبعض الضباط القائمين على حراسة سليمان أن يساعدوه فى الهرب، على أن يعاونه أهله بعد ذلك فى إنجاح مهمة اختفائه، لكنه رفض وقال لهم حتى لو اتحكم علىّ بالإعدام مش هاهرب.
وفى أول زيارة بعد صدور الحكم تقابل أهل سليمان مع الكاتب مكرم محمد أحمد الذى كان يجرى معه حوارا صحفيا. وفى أثناء الحوار أبدى سليمان امتعاضه من إحدى الصحف القومية التى خرجت بمانشيت عن سليمان يقول «سليمان خاطر بطل رغم أنفه»، لكن مكرم وعد بأن يدافع عن خاطر وأن يعيد إليه حقه الأدبى الذى يفكر كثيرون فى سرقته منه بعد أن أصبحت القضية سياسية تتعرض لضغوط مختلفة، وهو الوعد الذى أوفى به فى ما بعد نقيب الصحفيين السابق على صفحات مجلة «المصور»، على حد شهادة أهل سليمان.
كيف كانت حالة سليمان عندما زرتموه؟
سألت فأجابنى شقيقه وزوج شقيقته قائلين:
كانت معنويات سليمان مرتفعة لأنه استطاع أن يرسل التماسا لرئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة (التى لم تكن قد أصبحت نهائية وقتها) وكان مقتنعا بأنه سيستمر فى السجن عامين أو ثلاثة على الأكثر.
فى هذه الزيارة طلب سليمان من أهله أفارول صوف أزرق وفانلة صوف وفرشاة ومعجون أسنان وماكينة حلاقة وكتبه الدراسية (كتب السنة الثالثة بكلية الحقوق).. طلب كل ما له علاقة بالحياة.
ويحكى شقيقه الحاج عبد المنعم قائلا: «كانت هناك قطعة أرض باسم سليمان، وبعد الحكم طبعا احتجنا لتوكيل منه لإدارة هذه الأرض حتى لا يتوقف نشاطها، فطلب منى سليمان أن أحضر مندوبا من الشهر العقارى فى اليوم التالى إلى السجن لإنهاء إجراءات التوكيل.
بالفعل ذهبت إلى الشهر العقارى واصطحبت مندوبا وتوجهنا إلى السجن، لكنهم هناك منعونى من الدخول، فقلت لهم إنى أحمل تصريحا فاعترضوا قائلين: (المشير أبو غزالة فى زيارة للسجن وممنوع الدخول)وطلبوا منى أن أحضر فى اليوم التالى».
فى هذا اليوم عاد الحاج عبد المنعم إلى البيت وفى أثناء إذاعة التليفزيون مباراة الأهلى والمنصورة انقطع الإرسال فجأة وظهر المذيع ليلقى خبرا يقول: «انتحار الجندى سليمان خاطر فى السجن اليوم».
(3)
بعد أن استقر سليمان خاطر فى السجن أرسل إلى شقيقه خطابا يطلب منه أن لا ينزعج من طلب سليمان بتقليل زيارات العائلة له ويشرح له السبب، قرأته بنفسى وحصلت على صورة منه..
يقول سليمان فى هذا الخطاب:
«أخى الحبيب عبد المنعم حفظكم الله.. أعرف أننى بخير ولا ينقصنى سوى رؤياكم الكريمة، وبلغ سلامى وألف تحية للأخت أم محمد والأخت إنصاف وزوجها والأولاد.
مش تزعل يا أبو عاصم أنا مش عايز الضرر ليك لأنى أنا عارف الظروف هنا.. كل واحد بيأتى اسمه بيروح إلى قائد الجيش، مش تزعل وإذا يعنى فيه زيارة مش عايز غير الأولاد وأى حد من بيت عمك الشبراوى ومن بيت عمتك وأمك وبس، وإوعى تشغل نفسك من جهتى والله أنا لسه داخل من الخارج وكنت قاعد باضرب فى الأولاد، والأولاد دلوقتى واضعين ليا راضوين (راديو) وفيها أم كلثوم بتقول واحشنى وأنت قصاد عينى.. شايف النغم، يعنى لو مافيش زيارة مش تشغل نفسك.. أنا بخير والحمد لله».
(4)
فى أثناء اطلاعى على الخطاب فوجئت بالحاج عبد المنعم خاطر يقول بصوت عال: «يا أمى تعالى سلمى».
دخلت علينا والدة سليمان خاطر.. كتلة متحركة من الحزن والوجع، صافحتنا فى ود بالغ وخجل ثم انتبذت مكانا بعيدا فى مجلسنا وفجأة هبت واقفة، كمن تذكر شيئا مهما، ثم نادت بصوت واهن «يا سليمان يا خاطر»… فانفتح باب المضيفة.


فى أثناء جلوسنا وقفت أم سليمان كمن تذكر شيئا مهما ونادت بصوت واهن «يا سليمان يا خاطر»، فانفتح باب المضيفة ودخل علينا طفل (كان وقتها فى العاشرة من عمره) فصافحنا وقدمه لنا الحاج عبد المنعم خاطر قائلا «سليمان ابنى.. اتولد قبل وفاة سليمان بشوية، ورغم إن سليمان عمه طلب مننا إننا نسميه إسلام، سميناه سليمان، ولما عرف قال لى: إنت خايف أموت فسميته سليمان ولا ايه؟».
قالت الأم «سليمان كان كويس يا أستاذ»، ثم صمتت كأنها تكلم نفسها قائلة «أمال ماكانش كويس؟».
ثم واصلت حديثها «كان أصغر اخواته وأحسنهم، يا ريته كان شقى، ده كان أهداهم، أنا فاكرة يوم الزيارة الظباط أصحابه فى السجن كانوا بيحضنوا فيا ويقولوا لى (فتحناله الباب وقلنا له اهرب وهو مارضيش، وقال لهم: هيقولوا سليمان هرب)، يومها حضننى وباسنى وكان بيضحك ووشه منور وقد كده، وقال لى (أنا حلو وكويس يا امه، وهاجيلك قريب)، وهو صغير راح على بحر البقر يوم ما اتضربت ورجع يبكى، بس كان طيب وماكانش بيشيل حاجة لحد، واللى ف جيبه لغيره، ويوم ما رحت له السجن أخد منى الأكل ووزعه على زمايله، وقلت له: ماتزعلش يا سليمان، إنت طيب وراجل كبير، واللى حصل ده بتاع ربنا».
(2)
يوم عرف أقارب سليمان بوفاته توجهوا إلى السجن، وصلوا فى السادسة مساء، سأل جندى الحراسة عن هوية القادمين فقالوا له «إحنا قرايب سليمان خاطر»، فما كان منه إلا أنه أغلق الباب فى وجههم، وأطفَؤوا الأنوار الخارجية للسجن وخرجت لنا خيول السجن عند الباب لتبعدنا، وبعد ساعة خرج أحد الجنود قائلا «لو سمحتو امشوا من هنا فورا.. سليمان فى مشرحة زينهم».
قال لى يومها الحاج عبد المنعم شقيق سليمان «وجدنا جثة سليمان مليئة بأشياء غريبة لا تدل على أنه مات منتحرا.. وجدنا أظافره محطمة تماما وزرقاء، وكدمات وسحجات فى ظهره من الخلف، وكانت ساقاه مثنيتين إلى أعلى وجثته منحنية وكان ملفوفا حول نفسه، ولم يكن هذا وضع شخص منتحر بشنق نفسه فى مكان عال.. فمن المفترض فى هذه الحالة أن تكون جثته مدلاة إلى أسفل».
تم دفن سليمان.
ولكن أمام هياج الرأى العام وقتها والإصرار على أن سليمان مات مقتولا لا منتحرا أصدرت محكمة الأمور المستعجلة حكما باستخراج جثة سليمان وإعادة معاينتها لمعرفة أسباب الوفاة، وكانت نتيجة تقرير الفحص أن سليمان مات بإسفكسيا الشنق.
(3)
الملابسات كلها لا تترك للواحد مساحة ليصدق أن سليمان خاطر مات منتحرا، لا نشأته الريفية ولا التزامه الدينى يسمحان بذلك، ولا مساحة للحديث عن تأنيب ضمير شديد أدى إلى اكتئاب جعله يقدم على الانتحار، فتأنيب الضمير مردود عليه بإيمان سليمان الشديد بأنه أدى واجبه، أما الاكتئاب فلا يوجد شىء واحد يدل عليه، فهذا رجل طلب قبل وفاته بأيام كل ما له علاقة بحب الحياة من ملابس وأدوات نظافة وكتبه الجامعية، وكان سعيدا بأنه استطاع أن يرسل التماسا إلى رئيس الجمهورية لتخفيف العقوبة، وكان بشهادة زملائه فى السجن مرحا يناكفهم ويناكفونه ثم يسهرون يستمعون إلى أم كلثوم فى الراديو، وعرضوا عليه أن يهرب لكنه رفض، وفى أثناء محاكمته شاهد بنفسه كيف كان جمهور المحاكمة يهتفون باسمه ويرونه بطلا يفخرون به، ثم إن شخصا اعتاد أن يرسل إلى أهله خطابات من السجن لماذا لم يكلف نفسه عناء كتابة رسالة بها وصيته أو بها أسباب إقدامه على الانتحار؟
أما التفاصيل الواردة فى تقارير الطب الشرعى فقد تناولها كتاب وصحفيون كثيرون وقتها بالنقد واستخراج مناطق التضاد غير المنطقى فيها، لكن القضية كان لا بد لها أن تنتهى ولو بالقوة.
كان أحمد رشدى هو وزير الداخلية وقت وقعت الحادثة، ويذكر أهالى سليمان خاطر أنه لم يمسسهم بسوء، بعدها مباشرة وفى أثناء إثارة موضوع قُتل أم انتحر كان اللواء زكى بدر قد وصل إلى المنصب ففرض حصارا حول القرية وحول منزل عائلة سليمان خاطر (والكلام لزوج شقيقته) ولم نغادر المنزل طوال فترة الحصار بأوامر الأمن وكان كل شىء ممنوعا الدخول أو الخروج أو حتى استخدام التليفونات.
يقول أهل سليمان إن الموضوع بالنسبة إليهم انتهى بوفاة سليمان ولم تعد كل هذه الأحداث تشغلهم، فلا شىء كان سيعيد سليمان إليهم.
(4)
قبل خروجى من بيت سليمان خاطر استوقفتنى والدته قائلة «ولا عمرى صدقت إنه مات غير لما جه أبو عاصم أخوه وحضننى وقال لى (سليمان مات يا امه).. قلت له: لا يمكن يا ابو عاصم.. ابنى حلو وصغير مايموتش دلوقتى».
من قال إن سليمان مات؟

No comments:

Post a Comment