USATODAY.com News

Thursday, February 9, 2012

إبراهيم عيسى--إلاّ بورسعيد--




أسمع نباحًا ضدَّ بورسعيد..
فى مصر الآن ضباب كثيف من الجهل والكراهية والكذب والغوغائية يسمح بأن تتوه فيه الحقيقة مع سبق الإصرار والترصد..
لكن لا مؤاخذة إلا بورسعيد!
مذبحة استاد بورسعيد جريمة بشعة بكل المقاييس، لكن بدلا من أن نبحث عن المدبِّر الحقيقى والمخطِّط والمنفِّذ سواء كانوا أفرادا أو جهات ثم نحاسب الجهاز الأمنى على تواطئه سواء بالتعمد والمشاركة المباشرة أو بالإهمال والتقصير الذى يصل إلى حد الاشتراك فى الجريمة، قرر بعضنا أن يضع بورسعيد المدينة والشعب موضع الاتهام وخرجت دعاوى مخلوطة بالغضب والجهل لمقاطعتها أو إدانتها، ولا أظن ذلك أمرا بريئا ولا تصرفات ناجمة عن هوس الصدمة، بل رغبة فى صرف النظر عن حجم الإهمال الأمنى المريع وسحب اهتمام المصريين عن فداحة الانفلات الأمنى والفوضى التى يرعاها عجز الشرطة أو تواطؤها، وبدلا من أن نتوجه جميعا إلى المجلس العسكرى ونضع مسؤولية المذبحة على كتّافتَيه ونتهمه بالتقصير فى حماية أمن وسلامة المواطنين، فإن البعض -ينساق غاضبا أو جاهلا أو كارها أو حزينا وراء أطراف أمنية وبرامج رياضية تعمل فى خدمة المباحث طول عمرها وخلف منافقى المجلس العسكرى والأجهزة الأمنية- يحاول أن يجرّ المصريين نحو فتنة نفسية وقطيعة عاطفية مع بورسعيد لتحميلها كمدينة ومواطنين ذنب هذه الجريمة الواطية التى جرت على أرض استادها حتى لو كان قد تورط فى بعض خطوات تنفيذها بضعة منتمين إلى هذه المدينة!
إن المطلوب هو معاقبة بورسعيد..
ليه؟
لأنها بلد رجالة من يومها، لأنها بلد باسلة قاومت العدوان، لأنها بلد صاحبة كبرياء وعزة وكرامة، لأنها بلد كرهت حسنى مبارك وحاول أحد أهلها اغتياله، لأنها بلد لم يكسب فيها الحزب الوطنى رغم التزوير، لأنها بلد كانت تحقق أعلى نجاح للمعارضة فى كل انتخابات، لأنها بلد تحس أن رأسها برأس العاصمة، لأنها بلد لا تسكت على ظلم ولا تطيق عدوانا، لأنها بلد تعشق الفوز والانتصار، لأنها بلد تأكل بعرق جبينها وبشقاها، لأنها بلد تحملت الغربة داخل الوطن حين هجّروا شعبها تحت ضرب القنابل والصواريخ الإسرائيلية ضد مساكنها وبيوتها فتحملت عن مصر كلها المعاناة ونام أجداد وآباء البورسعيدية فى المدارس والمخيمات سنين ولم يطالبوا مصر وشعبها بثمن أو كلفة، لأنها مدينة حرة لا تطيق محافظا أو مدير أمن ظالما أو فاسدا، لأنها مدينة أبو العربى الذى ينكّت عليه المصريون من باب الغفلة والاستسلام لما يريده منا أعداؤنا، فأبو العربى هو ابن حى العرب فى بورسعيد حيث كانت المدينة قبل ثورة يوليو مقسمة إلى منطقتين، حى الأفرنجى وهو الذى يعيش فيه الأجانب من موظفى قناة السويس والشركات والبنوك الأجنبية فى شوارع واسعة نظيفة وبيوت فخيمة كبيرة، وحى العرب وهو حى المصريين الفقراء ذوى الدخل المحدود والمعدوم الذين يعانون الظلم والتفاوت الطبقى بينهم وبين الأجانب، فخلق هذا عند الشخصية البورسعيدية الإحساس بالتمرد والثورة، وهو أبو العربى بمعنى الانتماء إلى مصر والعروبة فى مواجهة الأجانب، ولما كان يفخر بذاته رغم فقره ويتحدث عن تاريخه رغم حاضره التعيس يَصِمونه بالفشر والكذب، بورسعيد التى سخرت وهزّأت قائد الاحتلال الإنجليزى اللورد أللنبى وصنعت له دمية وضعتها على أعلى صارى ولفّت بها تحرقها أمام المحتلين الأجانب، بورسعيد التى قررت أن تواجه الأندية الأجنبية التى ملأت بورسعيد تحت الاحتلال بملاعب الكرة الخاصة بالأجانب والمحتلين فجمعت مالا من فقرائها وصياديها وأنشات ناديا أطلقت عليه بوطنيتها وانتمائها الرائع «النادى المصرى»، كان فخرها الرياضى فى مجابهة ومنافسة الاحتلال الأجنبى، بورسعيد التى يوم أسرت ضابطا بريطانيا كان هو ابن عم الملكة، ويوم اغتالت قائدا إنجليزيا كان هو قائد المخابرات الإنجليزية، بورسعيد التى كان رجالها هم القوة الأساسية لكثير من عمليات اختراق صفوف العدو الإسرائيلى والتى ساعدت وشاركت فى كل عمليات الصاعقة والمخابرات ضد العدو قبل حرب أكتوبر 73.
هل المطلوب الآن أن نكره بورسعيد بسبب مجرمين خططوا على أرضها أو مأجورين ومهووسين تآمروا أو تواطؤوا أو نفذوا؟
عندما خرج آلاف من شباب الألتراس فى مظاهرات واحتجاجات ضد الداخلية وتورط الشرطة فى مذبحة بورسعيد بالتواطؤ أو الإهمال كانوا يقولون بوضوح إنهم فهموا مَن المسؤول عن المذبحة وذهبوا إلى الذى يجب أن نطالبه بدم أولادنا، كان الطريق إلى الداخلية ليس للحرق ولا للاقتحام ولا للتخريب بل لإعلان صريح واضح ناصع، أنكم أنتم يا داخلية المسؤولون وأننا يا نجيب حقهم يا نموت زيهم، لم يكن فى ذهن الشباب ساعتها أهل بورسعيد ولا المدينة رغم اتساع الجرح وعمقه وحتى الغضب الهادر ضد تعصب جمهور المصرى لا يمكن أن يمثل اتهاما للجمهور بالجريمة، بل أجواء التعصب وغباوة التشجيع لا تعنى أبدا الجرأة على ارتكاب مذبحة، فالمجرمون محترفون وتحت الطلب!
من يُرِد لنا أن نكره بورسعيد ونخاصمها ونقاطعها ونعاقبها فإنما يريد لنا ومنا أن نكره الشجاعة والكرامة وأن نخاصم أنبل ما فى تاريخنا ومعاركنا وأن نقاطع المقاومة والبسالة وأن نعاقب الشرف والعزة وأن نتغافل -ضمن هذا كله- عن عجز الداخلية وتقصيرها وجريمة التواطؤ أو الإهمال المتعمد، وأن نتجاهل دور المجلس العسكرى المسؤول عن أرواح أبنائنا وأهلنا، مطلوب إذن أن نأكل فى بعضنا ونتبادل اللعنات والطعنات والفتن والإحن بينما نترك الفاعل الحقيقى يرتع فوق جثث شهدائنا!

No comments:

Post a Comment