USATODAY.com News

Monday, March 21, 2011

د. أحمد خالد توفيق..ليلة شتاء ..من موقع بص وطل

Jan 10 2011
أنا لا أحب مهنتي..

كلما مررت بموقف مشابه، دارت ذات الفكرة في ذهني. أنا لا أحب مهنتي.. قليل من الناس ممن عرفت يحب مهنته، ما لم يشعر بأنها رسالة مقدّسة كما يفعل المدرّس أو الطبيب أحيانًا، أو يجدها مجزية جدًا كما يفعل رجل الأعمال، أو هي فعلاً مهنة ممتعة، مثل ذلك الأخ راي هاري هاوزن الذي كان يصمم الوحوش في أفلام الرعب.. تخيل أنه يصحو من النوم صباحًا ويذهب لعمله ليصمم الوحوش حتى يحين موعد الانصراف!

أنا لا أحب مهنتي، لكني لا أعرف سواها. عندما يستدعونك لموقع الجريمة في الثالثة صباحًا، فإنك تلهث من البرد والتوتر وأنت تتوقع تقريبًا ما ستراه.. بعد كل هذه الأعوام ما زلت لا أتحمل منظر الجثث الممزقة وأمقت رائحة الدم..

اسمي عوني.. في الخامسة والثلاثين من العمر.. لا شك أنك عرفت مهنتي الآن.. أنا ضابط شرطة، وقد رأيت الكثير طبعًا، لكن هذا لا يعني تصريحًا بالبرود أو اللامبالاة..

هناك حوادث تزلزل وجدانك فعلاً، وتتحدى ثباتك المهني.. مثلاً عندما تجد الطريقة التي شوّه بها هذا السفاح ضحيته، والأسلوب السادي المريض الذي ترك به توقيعه، عندها لا بد أن ترتجف.. على أني كوّنت نظريتي الخاصة بعد أعوام: كل واحد يمكن أن يفعل أي شيء إذا اصابته حالة جنون وقتية، أو زال عنه قناع التحضر..

أما عن الطقس الرديء فموضوع آخر.. يصعب على المرء أن يتصور أن هذا عامل مهم في مصر، لكن بوسعي أن أخبرك بعشرات القصص التي رحنا نجري فيها التحقيقات في ظروف مستحيلة...

مثلاً قصة اليوم حدثت في عزبة خارج المدينة.. نحن قريبون من الإسكندرية جدًا لكن لن أعطي تفاصيل...

الآن يمكنك أن تتخيل ما يحدث.. أمطار غزيرة جدًا ..

في ليلة كهذه تتمنى فعلاً لو ظللت في فراشك، لكن جرس الهاتف يدق بإلحاح.. سوف تأتي السيارة لتأخذك حالاً.. هناك جريمة قتل..

أرتدي ثيابي، ومن تحتها بول أوفر ثقيل.. زوجتي تصر على أن أحترس من البرد، ولا أعرف كيف أحترس من البرد بينما كل ذرة في الكون باردة... "احترس من الطريق!".. كيف أحترس من الطريق وقد تحوّل لبحيرة، دعك من أن بسيوني هو الذي يقود وهو على درجة من العته!

في الطريق وسط حمّى الوحل والبرق الذي يشق السماء والمساحات، أعرف من بسيوني التفاصيل:

- "اتصلوا بنا وقالوا إن هناك رجلاً لا يعرفونه اقتحم العزبة، وقتل أحدهم بسلاح ناري.. ثم فرّ"

أقول له وأنا أرتجف من البرد:

- "ليست تفاصيل مفيدة جدًا.."

- "سوف نعرف كل شيء.."

رباه!.. أنا لا أحب مهنتي.. كلما تذكّرت أنني كنت في الفراش منذ نصف ساعة دافئًا أحلم...

أنا من ضباط الشرطة الذين يقفون في الركن.. في الزاوية الضيقة.. لم أشتم ولم أصفع متهمًا في حياتي، ولم أدسّ قطعة بانجو في جيب أحدهم، ولم أستغلّ سلطتي قط حتى في الحصول على رغيف خبز. وفي الوقت نفسه أنا بالنسبة للمواطن العادي ضابط مغرور سادي يستغلّ سلطته بالتأكيد.. لا أستطيع لعب دور الوغد، لكنهم يصرون على أنني كذلك...

باختصار أنا أنال النصيب الأسوأ من الجانبين..

السيارة تشق طريقها نحو تلك العزبة، وهناك عند ناصية الطريق يجلس ثلاثة من الخفراء يصطلون بالنار، وقد تدثّر كل منهم كرجل من الإسكيمو.. هناك خيمة من المشمّع لتحميهم من المطر الغزير، ويقف أحدهم ليصوب علينا نور الكشاف القوي، ويهتف:

- "لا يمكن الوصول إلى هناك يا باشا.. سوف يفيض المصرف.. بعد ساعة سيتحول هذا كله إلى نهر عميق ولن تعرفوا أين الطريق."

قلت له في عصبية:

- "صوّبْ هذا الكشاف على شيء آخر أولاً.. لا يوجد حل آخر.. لا بد أن يذهب أحد هناك.. لن ننتظر حتى يأتي الربيع!"

راح يصف لبسيوني طريقًا مختصرًا.. ثم دعانا لكوب شاي كنا سنرحّب به طبعًا لو كانت الظروف تسمح..

ننطلق من جديد نحو تلك العزبة، بينما خزانات السماء تفرغ ما فيها فوق رءوسنا..

يقول بسيوني في توتر:

- "هذه رحلة خطرة جدًا... ربما كان من الأفضل أن نعود.."

- "لقد تمادينا بما يكفي.."
لسان برق يشقّ السماء من جديد... أتفحص الهاتف المحمول فأدرك أن الشبكة قد غرقت في الماء وماتت...

فجأة هتف بسيوني:

- "إننا قد دخلنا العزبة فعلاً.."

هذا صحيح!

صحيح أن العاصفة توشك على اقتلاع كل شيء، والأمطار تجعل الرؤية مستحيلة، لكن لا أعرف مكانًا آخر يمكن أن يكون مزروعًا بهذه الطريقة.. دعك من صوت خوار البهائم المذعورة في جرن ما، ونباح كلاب تعتقد أنها نهاية العالم، وذلك البيت المبني من القرميد...

هذه عزبة فعلاً..

ترجّلنا محاولين أن نتماسك فلا نسقط في الوحل، وأضأنا الكشافات بينما تحسّست مسدسي.. تبًا.. لقد ارتفع الماء لدرجة لا تصدّق حتى إنني فتحت باب السيارة فتسرّب للداخل..

اتجه بسيوني نحو الباب الخشبي العملاق ودق بيده الغليظة عدة مرات:

- "افتح!.. بوليس!"

لحظات وانفتح الباب بشكل شحيح، وظهر وجه رجل مسنّ ريفي يرتجف:

- "بسم الله الرحمن الرحيم"

الإضاءة ساطعة هنا لحسن الحظ...

ومن خلفه ظهر وجه رجل ريفي وسيم متأنّق.. أعتقد أنه في الخمسين من العمر.. يلبس الجلباب الأبيض الفاخر المميز لأثرياء الريف. هذا سيد بلا شك.. سألته:

- "عزبة الليثي؟"

- "أنا محمود الليثي.. تفضلوا.."

عندما دخلنا إلى المدخل الأنيق المريح تنهّدنا الصعداء، وشعرت بحرج من أحذيتنا المتّسخة بالوحل، لكن نزع الأحذية ليس جميلاً من الناحية البوليسية..

- "خيرًا إن شاء الله؟"

قلت له في حيرة:

- "أعتقد أن هذه العبارة جديرة بنا.. أنتم اتصلتم وتكلمتم عن جريمة قتل."

نظر لي في دهشة.. ثم نظر للعجوز..

- "أعوذ بالله يا باشا.. لم يحدث شيء من هذا.."

بلاغ كاذب إذن؟ سيكون هذا أسخف مقلب شربته في حياتي.

لكن في الوقت ذاته كنت أنظر إلى الأرض.. إلى طرف الجلباب الأبيض.. هذه قطرات دم طازج. دم لم يتغير لونه بعد، ولا يمكنه إقناعي بأنه كان يذبح الطيور في هذه الساعة وهذا الجو..

البلاغ غير كاذب..
ويبدو أننا وجدنا القاتل بسرعة كذلك!
*** 
Jan 19 2011
قلت في ضيق وأنا أرتجف:

ـ "لا تحاول إقناعي أن ما حدث كان دعابة سخيفة".

ابتسم.. كان من الطراز الثقيل جدًا الذي لا يهتزّ لشيء.. الصراع العقلي معه ليس هينًا. قال في لهجة آسفة باطنها المزاح:

ـ "هذه هي الحقيقة.. لو كنا نعرف أنكم قادمون لقتلنا أحدًا!"

في هذه اللحظة كان آخرون قد جاءوا من الداخل..

هناك شابان في سنّ المراهقة امتلأ وجهاهما بالنمش، وكانا يلبسان منامتين صوفيتين ثقيلتين.. بعد هذا ظهر طفل مذعور في نحو السابعة.. النوم واضح تمامًا في انتفاخ العيون واحمرار الآذان والغربال الذي رسم معالمه على بعض الخدود....

ـ "ماذا حدث يا بابا؟"

نعم. هم إذن يستعملون لفظة "بابا".. قال الليثي في ثبات:

ـ "لا شيء.. عُدْ واكمل نومك.."

ومن موضع بالداخل رأيت شبح امرأتين.. يبدو أن هناك واحدة شابة وواحدة أكبر سنًا.. كانت كل منهما تلفّ ما يشبه "الطرحة" على رأسها على سبيل اتّقاء البرد والحشمة..

ـ "محمود.. هل من شيء؟ لماذا الشرطة هنا؟"

كان الصوت يدل على أنها في الأربعين وجميلة غالبًا.. لما لاحظ أننا ننصت صاح في حزم دون أن يلتفت للخلف:

ـ "ادخلي أنت وابنتك! ما شأنك بهذا؟"

انتظرت حتى توارت الأنثيان، وقلت وأنا أشير لحذائه:

ـ "هل تريد القول إن هذا الدم صدفة؟"
نظر للجلباب ثم قال باستخفاف:

ـ "وما في ذلك؟ إنني أذبح كل يوم.. نحن عدم المؤاخذة فلاحون".

ـ "في هذه الساعة؟ ووسط هذه العاصفة؟"

ـ "هل يوجد ما يمنع يا باشا؟ لا بد للنسوة من إعداد الخروف الذي سنطهوه غدًا".

ساد الصمت ونظرت لبسيوني ونظر لي.. لا يوجد ما نعمله بعد هذا..

- "هل أنت متأكد من أنه لا يوجد هنا شخص آخر؟ خادم أو خادمة؟ شخص يرقد كجثة الآن؟"

قال الليثي ضاحكًا:

ـ "لا شيء من هذا.. كل الموجودين في هذه البناية يقفون أمامك، أما عن المستأجرين في الخارج فلا أعرف عنهم شيئًا الآن، ولو ماتوا جميعًا فلن أعرف.."

تبًا.. أنا لا أحب مهنتي.. نظرت لساعتي ثم تأهّبت للخروج مما أضحك الجميع.. كأنني أكبر أحمق قابلوه في حياتهم، وكنت كذلك فعلاً:

ـ "هل تمزح يا باشا؟ لقد فاض المصرف.. العزبة كلها صارت بحيرة، ولن تستطيع بلوغ السيارة أصلاً؛ لأنك ستهوي لتغوص في الوحل.. ولو تحرّكت السيارة فسوف تنغرس للأبد.."

في غيظ قلت:

ـ "وما الحل؟"

ـ "الحل أن تبقوا معنا هنا حتى تتحسن الأمور.. البيت بيتكم ونحن كرماء والله العظيم.. في الصباح ربما نجد طريقة للعودة.."

هذا لن يكون.. المبيت هنا.. زوجتي..

جرّبت الهاتف الجوال عدة مرات.. كأننا في الأعوام التي سبقت اختراع الشبكة أصلاً.. على كل حال زوجتي تعرف أنني أحقّق في جريمة قتل ولم أخرج لشراء سجائر.. أنا لا أحب مهنتي.. لا أحبها بتاتًا..

هنا صاح في زوجته:

ـ "يا إنصاف!!"

كأن المرأة تلقّت باقي الرسالة، وسرعان ما اقتادنا الخادم العجوز إلى غرفة مسافرين واسعة، فنزعنا أحذيتنا، وجلسنا على أرائك عالية..

ـ "خذا راحتكما.. البيت بيتكما".

وسرعان ما انفتح الباب ليدخل العجوز حاملاً دورقًا لغسيل اليدين وطستًا ومنشفة، ثم اختفى من جديد، وعاد هذه المرة بصينية عملاقة عليها طيور محمّرة كثيرة جدًا، وإناء تتصاعد منه رائحة البازلاء، وأرز ورقاق.. ما هذا؟ هل هم مستعدون بالأكل طيلة الوقت؟ وهل لا يوجد عندهم وقت بين الفعل وردّ الفعل؟ وضعوا الصينية على الأرض، فالتففنا جميعًا حولها.. ألم يتناول هؤلاء عشاءهم؟ أم هم مستعدون للعشاء في أي وقت؟

انقضّ بسيوني على الطعام طبعًا، أما أنا فاكتفيت ببعض لقيمات.. لست مرتاحًا لهذه الوجبة ولا هذه الأسرة أصلاً.. ثم إن الطعام الساخن سيؤدي دور المخدر معي وأنا لا أريد هذا.

ـ "كل يا باشا.. كل لتقاوم البرد.."

ثم أشار إلى الفتيين المراهقين اللذين كان كل منهما يعرق دبوس دجاجة بأسنانه:

ـ "هذان سامي ومصطفى.. ابناي.. طالبان في الثانوي.. أما هذا الصغير فهو رأفت وهو في المدرسة الابتدائية.. لي ابنة واحدة في سنّ الجامعة، لكني بيني وبينك أكره أن أرى حريمي في الشارع والشباب ينظر لهن.. لقد اخترت لها عريسًا.."

قلت كلامًا عامًا على غرار "ربنا يخلّي".. ثم أعلنت أنني راغب في الذهاب للحمام..

نظر الليثي للعجوز الذي فهم على الفور، فأسرع يسبقني نحو خارج الحجرة.. وكان هناك قبقاب ناولوه لي، فصرت كأنني راقص كاريوكا في جزر الكاريبي.. ضوضاء رهيبة فعلاً...

الآن أمشي وسط ممرات مظلمة كئيبة.. من مكان ما ظهر مصباح كيروسين، فحمله العجوز في يده وهو يسبقني...

لم تكن دورة المياه رائعة، لكنها أدّت الغرض على كل حال، ثم إن الظلام دامس والبرد شديد.. لا أهتدي إلا بالضوء الخافت من المصباح.. هناك دلو ماء غسلت به يدي، ثم خرجت من الحمام..

هنا رأيت العجوز ينظر لي في ثبات.. ماذا يريد؟

كان يشير بطرف خفي إلى غرفة جانبية.. بإصرار شديد كذلك..

ماذا يريد؟ يريد أن أنظر دون ضوضاء.. لكن ماذا هنالك؟

زججت برأسي في الغرفة واشعلت عود ثقاب كان في جيبي..
هنا كتمت صرخة...
***
انت الغرفة لا تزيد على متر في متر اتساعًا، ومشيدة من القرميد الأحمر فلم يعنَ أحد بتغطية جدرانها، كما كانت هناك خراطيم كهرباء وأسياخ حديدية.. المشهد الذي طالعني على ضوء عود الثقاب المتراقص كان جثة على الأرض، ويبدو أن الماء يتسرّب هنا بشدة؛ لأنها كانت وسط بركة. انتهى الثقاب، فأشعلت ثقابًا آخر، وعلى الضوء أدركت أنها جثة رجل.. عدد هائل من الطعنات والضربات لا يمكن عدّها.. نظرة رعب على الوجه..

واضح أنه ريفي وإن لم يكن يلبس الجلباب. من الصعب أن أدقّق في ملامحه التي تشوّهت بهذا الشكل. لكن أهم ما في الموضوع هو أن هناك عددًا من الخِرَق والأكياس الممزقة قد ألقي فوقه.. هناك من حاول إخفاء هذه الجثة عن العيان..

انطفأ الثقاب فأشعلت عودًا ثالثًا.. نعم.. في يده طبنجة.. لكن ليس من الحكمة أن أفحصها؛ لأن البصمات ستكون ثمينة جدًا..

على كل حال حان الوقت.. مددت يدي لنطاقي وأخرجت المسدس الحكومي.. هنا شعرت بالشيخ يضع يده على يدي.. رأيت في وجهه نظرة مناشدة ألا أفعل شيئًا..

ـ "سأشرح لك كل شيء لكن ناشدتك بالله أن تخرج من هنا"

لسبب لا أعرفه قررت أن أثق به.. لا أعرف يقينًا ما سوف أفسده لكنني لن أخاطر بذلك..

ماذا يمكن أن يحدث؟ معي مسدس ومع بسيوني مسدس، ومعنا سلطة القانون، ومن المعروف أننا هنا.. ربما كان من الحكمة أن نصغي ونسمع ولا نفعل شيئًا، مؤقتًا..

لكن ما يجب أن أتذكره هو أن هذه الأسرة تعرف أشياء لا تعترف بها.. هم يكذبون فعلاً..

طعام مسموم؟ لا.. لن يخاطروا بهذا.. دعك من أنهم أكلوا معنا بلا حذر وبلا انتقاء..

عدت لغرفة المسافرين حيث كانت عملية الالتهام مستمرة. جلست على الأريكة فزام الليثي محتجًا، وهتف بفم مليء باللحم:

ـ "طلبت الذهاب للحمام وليس إنهاء وجبتك"

ـ "سفرة دائمة.."

وتربّعت على الأريكة وأشعلت لفافة تبغ مع كوب الشاي الذي جاء.. لا أنكر أن الجوّ منوّم ومدوّخ. الدفء! الدفء المقيت! العاصفة والبرد بالخارج وأنت هنا دافئ.. لكنك لست آمنًا! لا تنم.. لا تنم!

رباه!.. أنا أمقت مهنتي فعلاً..

لما انتهت الوجبة وغسل الجميع أيديهم نظر الليثي في ساعته.. إن الوقت متأخر جدًا لكن يبدو أن النوّة لا تريد أن تهمد قليلاً..

أمر الليثي الشيخ بأن يجلب لنا ما يلزم للنوم.. سرعان ما ظهرت حشيتان ووسادتان وملاءات.. الكثير منها.. وسرعان ما تحوّلت الأرضية إلى عنبر نوم..

قلت له وأنا أقاوم رغبة عاتية في أن أدسّ نفسي في بحر الدفء هذا:

ـ "نحن لا نريد أن نزعجكم.. إن هي إلا ساعات ونرحل.."

طبعًا كان ما يدور في ذهني هو أن هذه ليست بداية النهاية.. بل هي نهاية البداية على رأي الخواجة تشرشل.. هناك جثة ممزقة في الداخل، ومن مزّقها واحد من هؤلاء على الأرجح..

قال الليثي بشخصيته الكاسحة وهو يساعد على فرد الحشية:

ـ "لا تتفاءل يا باشا.. ربما طال الأمر.. على كل حال نحن لم نتجشّم جهدًا.. كل شيء موجود.."

جلست على الأرض.. ووضعت مطفأة السجائر على حجري.. ثم نفضت السيجارة وسألته:

ـ "هل العاملون بالعزبة هم كل من قابلناهم؟"
ـ "نعم. لكن قلت لك من قبل إن هناك مستأجرين للأرض.. لا أعرف شيئًا عنهم طبعًا، فلا بد أنهم في أكواخهم يرتجفون من البرد.."

جثة ممزقة هنا.. لو كانت من أفراد الأسرة لقالوا لي.. إلا إذا كانوا يمارسون أسلوب أومرتا، عندما ينكرون أي شيء أمام الشرطة؛ لأن لديهم أجندتهم الخاصة للثأر.. ربما... أما لو لم تكن الجثة من الأسرة فالاحتمال القريب هو أن القاتل واحد منهم.. هكذا تتعاون الأسرة كلها على خداعنا، ولا يعرفون أن الشيخ خائن..

أخيرًا صرت وحدي مع بسيوني.. كان قد أكل كثور حتى صار يتنفس بصعوبة، وقال لي وهو مغمض العينين:

ـ "هل أطفئ النور يا باشا؟"

لم أردّ.. نهضت وأغلقت النور أنا.. هنا سمعت بسيوني يقول في الظلام:

ـ "والله أهل كرم فعلاً... خ خ خ!"

تفكيره عملي جدًا.. لقد ظفر بأقصى ما يمكن أن يظفر به وهو وجبة دسمة، وترك لي أنا القلق والخواطر السوداء.. ترى من هو الأذكى؟ أين مسدسي؟ يجب أن يكون معي تحت الوسادة..

كنت أعرف يقينًا أن محاولة اتصال أخرى ستتم..

متى؟ يجب أن أظل متيقظًا..

لا بد أن نصف ساعة قد مرّ، عندما لمحت ذلك الشبح المحني يدخل الغرفة.. فتحت عيني في الظلام وأنا أعرف من هو.. ثم سمعت صوت الشيخ الهامس..

ـ "يا باشا!"
يزحف على الحشية إلى أن صار عمليًا ينام جواري! طريقة غريبة جدًا في التبسّط..

تحسّست المسدس ثم سألته بذات الهمس:

ـ "ماذا تريد؟"

قال وهو يرتجف:

ـ "الميت الذي رأيته... اسمه أبو زبيدة.. لا بد أنك سمعت عنه"

أبو زبيدة! من لم يسمع عنه؟ القاتل المأجور الذي شيّب أهالي المنطقة وحيّرنا معه. إنه اسم رنان مخيف.. هارب من عربة السجن منذ عشر سنوات، وعليه حكم بالإعدام. استقر في القرى هنا وله أصدقاء وأقارب يدارونه.. لكنه يملك شبكة اتصالات ممتازة، ويمكن لمن يريد قتل أي واحد أن يتصل به.

من الممكن أن تجد ضحايا أبو زبيدة، لكن من العسير نوعًا أن تجده هو نفسه!

قال الشيخ وهو يرتجف:

ـ "هو القاتل!"

قلت في غيظ:

ـ "ما شاء الله.. هو القاتل.. ومن الذي قتله أبو زبيدة؟ ومن الذي قتل أبو زبيدة؟"

نظر حوله في الظلام ثم همس:

ـ "هذه هي المشكلة.. نحن نعرف القاتل.. لكننا لا نعرف من هو القتيل!"
 

***
الليل والدفء الذي بدأ يضرب بناره في أطرافي وخدّي وصوت الشيخ الهامس.. أشعر أن هذا كله حلم سوف أفيق منه حالاً.. الأجمل أن (بسيوني) لم يصحُ بعد، مما جعلني أتساءل عن المؤثّر الذي يمكن أن يجعله يفيق منزعجًا.. هل هو ذبْحُنا؟!

المشكلة أن جهاز اللاسلكي لا يعمل، بل يُحدث هذا الأنين الغريب كأنه كلب مخنوق. لا شك في أنهم قلقون علينا ولا يعرفون أين نحن، لكن لا حيلة أمامهم؛ لأن هذه العزبة صارت خارج الزمن فعلاً. لا أعتقد أن الصباح سيسمح لنا بالرحيل؛ لأن كل هذا الوحل لن يزول قبل يوم بشرط توقّف الأمطار.

صوت الرعد يدوي.. كأن هناك حقل ألغام ينفجر بالخارج..

أقول للشيخ مغتاظًا:

ـ "عم تتكلم بالضبط؟ ما هذا الهراء؟ نحن نعرف القاتل.. لكننا لا نعرف من هو القتيل! ثم من سمح لك بأن تتسلل إلى هنا أصلاً؟"

يصغي لي وهو يضع سبابته على شفتيه محاولاً جعلي أخفض صوتي..

كان ينظر نحو الباب ثم دفن رأسه تحت البطانية..

لم أتحرك.. أدرت عيني بخفة، فرأيت الباب ينفتح ببطء.. الضوء يتسرب بذلك التأثير الشعاعي المعروف، ثم يملأ فرجة النور ظل فارع لرجل ينظر لنا..

فارع القامة ضخم البنية.. لا يوجد أشخاص كثيرون لهم هذه الصفات...

يلقي نظرة كأنه حارس يطمئن على أملاكه، ثم يغلق الباب ثانية..

بعد دقائق أخرج الشيخ رأسه وراح يلهث.. يبدو أنه كان سيموت خنقًا.. قال لي:

ـ "يريدون التأكد من أنك لست فضوليًا، ولن تذهب هنا أو هناك".

ـ "من هم؟ عم تتحدث؟"

أغمض عينه وراح يتكلم..

رباه!.. لن أنسى أبدًا نبرات صوته المسنّ.. صوت رجل دنا من النهاية أكثر من اللازم، وصار يعرف أكثر.. الظلام والليل والحاجة إلى أن تتخذ قرارًا سريعًا..

قال لي بذلك الصوت الرهيب:

ـ "لم نعرف أي شيء غريب إلا في العام 1986.. ليلة عاصفة مثل هذه.. (الليثي) الكبير المسنّ كان في غرفته، وقد أوشك على النوم، ثم خطر له أن المواشي ثائرة أكثر مما يجب. خطر له أنها تتعرّض لخطر أو هناك من يسرقها، أو ربما هناك ثعبان تسلل لها.."
"المهم أنه ارتدى معطفه الثقيل والتفّ بالتلفيعة، وخرج في العاصفة ليرى ما يدور هنالك. أنا كنت نائمًا ولم أعرف ما اعتزمه.. لم يعرف أحد أنه خرج.. كان لا يهاب شيئًا على الإطلاق.."

"لكنه نسي.. نسي كابينة التفتيش التي كانت تُبنى، وبالطبع هناك إهمال في كل صوب. كان هناك كابل ضغط عال عارٍ يتدلى حرًا.. لقد أسقطته الرياح وصار يسبح في الماء. في الثانية صباحًا سمعنا صرخة عالية، وصوتًا يُشبه الشرر الكهربي، وانقطع التيار الكهربي للحظات. خرج الجميع مذعورين يتساءلون عما حدث، فوجدنا الليثي الكبير واقفًا في مدخل الدار.. قال لنا ألا نقلق، فقد حرّكت العاصفة الكابل، لكن كل شيء على ما يرام، ثم اتجه لغرفته ونام فعاد الجميع لغرفهم.."

"في الصباح لم يكن في غرفته.. بحثنا كثيرًا وفي النهاية وجدناه ميتًا بالخارج قرب كابينة التفتيش. كان متصلبًا وقد تقلّصت ذراعاه على صدره شأن من تلقى صدمة كهربية، وعندما حاولت أن أنهضه صفعتني الكهرباء، وألقت بي مترًا للخلف.."

كنت أصغي للقصة نافد الصبر، فقلت له في ضيق:

ـ "لحظة.. قلت إنه بات في غرفته.."

ـ "هذا ما رأيناه.. لكننا عرفنا أنه مات فعلاً صعقًا بالكهرباء عندما داس على ذلك الكابل.."

ـ "يا سلام.. ومن ذلك الذي فسّر لكم كل شيء؟"

ـ "هذا هو السر.. سر آل الليثي.. لا يعرفه إلا قليلون.  وفيما بعد قالت لي أم خضر العجوز التي تعمل في هذا البيت قبلي بعقود ذات القصة.. هناك شيء غريب يتعلق بهم، ويحدث في أوقات معينة. عندما يموت بعضهم تبقى منهم رؤى تتكلم وتمارس الحياة لبضع ساعات، حتى لتحسبهم لم يموتوا بعد.. ثم يزول الوهم فتجد الجثة وتفهم".

ـ "تعني أن ذلك الشيخ مات، لكن روحه أو طيفه هو الذي عاد للدار، وتكلّم معكم؟"

ـ "هذا ما أعنيه يا باشا"

ـ "جميل.. جميل.. وأبو زبيدة هذا؟"

سعل الرجل ثم تمالك نفسه ودفن الغطاء في فمه كي لا يرتفع صوته.. ثم قال:

ـ "كح كح!.. لقد تسلل للبيت وقتل أحدًا.. أنا واثق من هذا.. هناك خلافات ونزاعات كثيرة حول الأرض والحدود والري، فلا أستبعد أن هناك من استأجره للقتل.. ثم انتقم منه أهل البيت وقتلوه وأخفوا جثته حيث رأيتها.. المشكلة أننا لا نعرف من الذي قتله أبو زبيدة!"

هنا كان صبري قد انتهى، فأخرجت مسدسي من تحت الوسادة ولوّحت به:

ـ "مشكلتك أنت بسيطة جدًا.. لو لم تنصرف بتخاريفك لفجّرت رأسك ولن أبالي بالعواقب!!"

لم يبد خائفًا جدًا.. فقط نهض في صعوبة، وزحف على ركبتيه نحو الباب وأنا أطلق السباب:

ـ "مجنون وأحمق.. إن خرف الشيخوخة قد....."

أخيرًا انغلق الباب وعاد الهدوء..

ومعه راحت أفكاري تتسابق..

كل هذا هراء طبعًا.. لكن لو فكّرنا فيه لبدا مخيفًا..

هذا يعني أن أحد الذين قضيت الأمسية معهم لا وجود له!.. ربما هم جميعًا!

يطلق الغربيون على القصص البوليسية مصطلح "من فعلها؟".. أي أن القاتل غير معروف.. وأحيانًا "كيف فعلها؟" بمعنى أن القاتل معروف، لكن الكشف عنه هو موضوع القصة.. للمرة الأولى أواجه اختراعًا جديدًا اسمه "من المفعول به؟"!

وكما قال الشيخ فعلاً: هذه المرة القاتل معروف.. لكننا لا نعرف القتيل!***

Feb 24 2011
لا أعرف كيف نمت..

هذا الجو النفسي لا يغري بالنوم أبدًا، لكن الدفء والظلام يصنعان المعجزات.. دعك من أن صوت العاصفة بالخارج يجعل التأثير أسوأ.

لقد ذبت في الدفء.. انزلقت قدماي ببطء في حفرة من الشيكولاتة الدافئة، فلم أعد أستطيع التملّص..

في المنام رأيت زوجتي.. رأيت أبي.. رأيت....

ثم سمعت صرخة مكتومة.. بشكل ما اقتحمت الحلم كما يحدث في "أحلام المنبّه" الشهيرة، وهكذا صحوت من النوم وأنا أرتجف.. استغرقت قرنين حتى أتذكر أين أنا..

أخذت مسدسي.. المعدن البارد الثقيل المطمْئن في يدي. ونهضت.. طبعًا لا داعي لأن أوقظ بسيوني..

هرعت إلى حذائي فانتعلته، وفتحت باب الحجرة، ووقفت أنصت قليلاً..

صوت الرعد هذا..

في الخارج كان هناك ظلام دامس وبرد قارس.. لا بد من أن أشعل عود ثقاب. أشعلت العود ورفعته، ورحت أرمق الردهة على الضوء المتراقص..

في اللحظة التالية ظهر ضوء متراقص.. ورأيت مصباح كيروسين في يد شخص، لكن بالطبع كان الضوء يأتي من أسفل فلم أتبين الملامح..

سمعت صوت الليثي فعرفت بعبقرية أن هذا هو الليثي.. كان يقول:

ـ "أنت سمعت ما سمعته يا باشا.. أليس كذلك؟"

ابتلعت ريقي، وظللت أصوّب المسدس نحوه، فقال في ثبات:

ـ "ابعد هذه الطبنجة عني فأنت سيد العارفين.. وتدرك أن (السلاح قد يطول)"

ثم تقدّم بذات الثبات ماشيًا في الردهة.. ومشيت وراءه مهتديًا بالضوء الذي يحوم حوله. سألته وأنا أمشي بحذر:

ـ "لِمَ مصباح الكيروسين؟"

ـ "يبدو أن الكابل قد ضرب.. الظلام دامس فلا نستطيع أن  نتبيّن السبب.."

في نهاية الممر كان ما يبدو كمطبخ واسع. تأكدت عندما دخلت أنه مطبخ فعلاً.. مطبخ ريفي ذو فرن واسع لخبز الفطير، وهناك عدد كبير من الآنية والدلاء..

فقط يجب أن أقول إن رائحة الموت كانت غالبة..

تسألني عن رائحة الموت.. لا أعرف كيف أقول.. فقط لو قضيت في هذه المهنة فترة طويلة لتعلمت كيف تشمّها مثلي..

هناك جثة هنا ولتقطع ذراعي إن كنت واهمًا..

كان هناك حوض غسيل.. درت حوله وانتظرت حتى لحق بي، فسقط الضوء على الأرض، وهنا أجفلنا معًا..

كان العجوز الذي تسلل لغرفتي هناك..

كان راقدًا على ظهره وقد ارتسم الفزع على ملامحه. لكن هذه الملامح كانت رخوة فقدت قدرتها على التشكل.. إنه ميت...

ركعت جواره وتحسست نبضات عنقه، ثم ألقيت نظرة على عنقه.. كان هناك ذلك الحبل الغليظ يلتفّ حوله في حقد. هناك من خنقه من الخلف، وهذا قد حدث منذ دقائق.. على الأرجح عندما سمعت صوت الصرخة..

ـ"ميت؟"

تساءل الليثي وهو يرفع المصباح أكثر، فهززت رأسي..

الآن جاءت لحظة الحقيقة.. هناك من قتل هذا الشيخ وهناك من قتل أبا زبيدة.. القاتل موجود هنا ويجب أن أقوم بعمل الشرطة المعتاد..

كل شيء يشير إلى أن الليثي الكبير من فعل هذا.. على قدر تصوّري لا يوجد واحد قريب من هذا الجزء من البيت من أفراد الأسرة. دعك من أن أفراد الأسرة كلهم لا تسمح حالتهم الجسدية بعمل هذا.. هذا عمل رجل بالغ..
لكن لماذا؟

من قتل هذا الشيخ ولماذا؟

الإجابة المنطقية هي أنه عرف أكثر مما يجب أو تكلم أكثر مما يجب.. هناك من أراد أن يخرسه قبل أن يتكلم أكثر..

ما الذي عرفه أكثر من اللازم؟

هنا أستعيد قصته الغريبة السخيفة وأرتجف.. هل في هذه القصة شيء من الحقيقة؟ مصرعه يؤكد بشكل ما أنها حقيقية.. هناك من يهمه ألا يتسرب هذا الخبر، وهذا الشخص هو غالبًا من قتل أبا زبيدة..

كان الليثي يسألني:

ـ "من فعل هذا؟ الرجل عاش بيننا زمنًا طويلاً.. من الكافر الذي...."

هنا كنت أهرع في الظلام نحو الغرفة التي كنا نائمين فيها، فوجّهت ركلة من فوق الأغطية لجسد بسيوني الذي نهض مذعورًا مبسملاً محوقلاً، وشعره المنتفش وجسده الدافئ يوحيان بأنه كان في الجنة تقريبًا، فقلت له بصوت عال:

ـ "حان الوقت لتنهض"

ثم عدت إلى الردهة حيث كان الليثي يراقبني كأنني مجنون.. صوّبت المسدس إلى رأسه وقلت بصوت كالصراخ:

ـ "الآن أنا أعرف أن من قتل هذا ومعه أبا زبيدة هو واحد منكم.. إنه تحت سقف هذا البيت!"

ضرب كفًا بكف.. وقال:

ـ "يا فتاح يا عليم.. من أبو زبيدة يا باشا؟"

ـ "أنت أدرى!"

هنا سمعت أصوات الأسرة..

ببطء يظهرون وهم يفركون عيونهم.. لا بد أن صراخي سبّب فوضى عارمة في هذا البيت.. هناك من يحمل المصابيح..

رأيت الفتيين المراهقين والصبي.. ومن رُكن الباب أدركت أن المرأتين هناك..

قلت وأنا أصوّب المسدس نحو الجميع وبيد راجفة نوعًا:

ـ"بسيوني.. هناك جثتان في هذا البيت.. الجثة الأولى لأبي زبيدة.. أنت تعرفه.. كل المنطقة تعرفه.. الجثة الثانية للشيخ الذي كان يقدّم لنا العشاء.. من قتل هذين موجود هنا.. تحت هذا السقف.. إنه واحد من هذه الوجوه.."

يا لأعصاب الليثي! لم تهتز شعرة ولم يندهش.. فقط تولى قيادة الموقف بذات الطريقة السابقة، وقال وهو يشير بيده إلى الغرفة التي كنا فيها:

ـ"ليكن يا باشا.. يمكن أن تقول هذا كله ونحن جلوس.. سوف أسمع الكلام ذاته حتى لو لم تصرخ!"

ثم صاح في امرأته:

ـ "الشاي يا إنصاف!"

قلت وأنا أتراجع:

ـ "لن أذوق طعامًا أو شرابًا في هذا البيت.. لا أريد أي شيء سوى تفسيرات!"

ـ "ولك هذا!"
***
جلسنا جميعًا في قاعة المسافرين.. يا لها من ليلة! أنا بالفعل أمقت مهنتي..

لكنها لم تعد ليلة بالضبط.. نحن نقترب من الصباح جدًا، لكن كيف تتوقع أن تشرق الشمس في هذا الصباح؟ ظلام.. ظلام.. كأننا في الشتاء القطبي..

ضوء الكلوب يتوهّج بصوته وفحيحه المميزين.. الصوت الذي كان يفتنني عند باعة الفاكهة الساهرين..

من حولي جلس أفراد الأسرة.. البعض افترش الأرض والبعض جلس على الأرائك العالية.. كان المسدس في يدي، لكن عدم مبالاتهم به جعلني أشعر بأنه بلا قيمة.. هناك هيبة للأسلحة النارية.. يجب أن يرتجف الناس عندما تصوّبها نحوهم وإلا بدا الأمر مخيفًا..

بسيوني كذلك راح يحكّ صدره وبطنه كأنه مفعم بالبراغيث، ولم يبال بأن يُخرج مسدسه.. لا شك في أنه جائع ويتمنى لو لم تدلهمّ الأمور بهذا الشكل ليقدموا لنا الإفطار..

قلت لليثي ضاغطًا على كلماتي:

ـ "أرجو أن تنضم لنا السيدة والابنة.."

قال في ثبات وهو يحدّق في عيني:

ـ "أما هذا فلا.. ليس للحكومة شأن مع حريم بيتي".

لم أرد أن أضغط طبعًا.. ثم تذكرت أن زوجته ليست من الأسرة.. فعلاً لا دخل لها بالقصة. سألته بقدر ما استطعت من تهذيب:

ـ "ليكن.. المدام ليست من الأسرة على كل حال".

قال بثبات:

ـ "بالعكس.. هي ابنة عمي! أنت تعرف الريف.. أنت متزوج من ابنة عمك منذ لحظة ميلادك".

هذا يعقّد الأمور.. الكل مشتبه فيه إذن..

وهنا ومن دون أن أعرف كيف، رأيت امرأة وفتاة تتقدمان لتدخلا القاعة.. نظرة نارية توهّجت في عين الليثي، لكنه على ما يبدو قرّر أن يؤجل الانتقام لحين..

كلتاهما كانت تلفّ طرحة على رأسها وشعرها بحيث لا تبدو سوى العينين تقريبًا.. لكن ما تبدّى من الوجه كان ينم عن حُسن، وبالفعل كانت الزوجة في الأربعين أما الفتاة ففي سن الجامعة..

ـ "سلامو عليكم".

ووقفتا جوار الباب صامتتين في مشهد شبه جنائزي..

قال الليثي بعدما استعاد ثبات صوته:

ـ "خيرًا يا باشا؟ تقول إن هناك جثتين في البيت.. الشيخ المسن وجثة أخرى.. أنا رأيت الأولى لكن ماذا عن الجثة الأخرى؟"

هنا صرخت المرأة:

ـ "جثة؟! عم تتكلمون؟"

صرخة جديرة فعلاً بزوجة تكتشف أن في بيتها جثتين.. هذا يتهمها بالإهمال وعدم النظافة.. الزوجة النشيطة تعرف على الفور أن هناك جثة في بيتها..

قلت:

ـ "هذا ما أتوقع أن أعرف إجابته.. جثة قاتل مأجور اسمه أبو زبيدة والكل هنا يعرفه.. أنت تعرفه.. إنه في غرفة مقفرة جوار المرحاض، وقد تلقّى عددًا هائلاً من الطعنات".

شهقت المرأة بينما ظهرت الاستثارة في عيون الشباب.. أكثرهم بالطبع كان الصغير رأفت. نظرت له لبعض الوقت.. يا لشحوبه! أعرف أن الأطفال فريسة دائمة للديدان والطفيليات، لكن على قدر ما أعرف لا يتجاوز الأمر بعض البقع في الوجه.. لكن للمرة الأولى أدقق في وجهه فأجده شاحبًا جدًا.. هذا غريب..


قال الليثي وهو يتحسس شاربه:

ـ "أنا لا أعرفه.. ولا أفهم لماذا يأتي قاتل مأجور ليموت في داري"!

ـ "كنت آمل أن تفسر لي هذا.."

كانت هناك بقع دم على جلبابه فلماذا؟ قال إنه كان يذبح حيوانًا.. لماذا يذبح المرء ليلاً ووسط هذه العاصفة؟ ما سبب هذا الحماس؟ ثم لماذا لم يكن هناك لحم حيواني على مأدبة العشاء؟ كان الطعام كله طيورًا..

قالت المرأة بصوت مبحوح:

ـ "يا قاعدين يكفيكوا شرّ الجايين! نحن أكثر الأسر احترامًا في البلدة.. لا شيء من هذا يحدث عندنا.."

كأن وجود جثث في البيت يدل على عدم الاحترام.. لماذا تلتفّ المرأتان بهذا الشكل؟ إنه يتحدى الحشمة أو التدين، بل هو منظر مرعب يذكّرني بالمجذومين كما كانوا يظهرون في الأفلام التي تدور في القرون الوسطى..

قال الليثي بذات الحزم:

ـ "صمتًا يا إنصاف".

هنا قال أحد المراهقين وهو من يُدعى مصطفى:

ـ "سمعت عن أبي زبيدة هذا.. هو رجل مخيف.. لكن من قتله وكيف؟"

مطّ عنقه للأمام.. هذا الجرح الغائر في العنق يبدو لي أعمق من اللازم.. والغريب أنه يانع أحمر اللون.. ليس جرحًا قديمًا لكن لماذا لم يضمده أحد؟

رأسي يوشك على الانفجار.. رباه! يجب أن أتخلص من قصة الشيخ، وأفكر بشكل مادي عقلاني.. يجب أن أتخلّص من هذه الفكرة الحمقاء. لو صدقت نفسي لتصوّرت أن كل واحد من هؤلاء ميت فعلاً..

على كل حال لو كانت القصة صحيحة -وهذا مستحيل-  فلسوف يسقط واحد من هؤلاء ميتًا، ونكتشف أنه كان كذلك منذ جاء البلاغ. ولو كانت خاطئة فعليّ أن أتصرف كشرطي.. يجب أن أطلب المدد وأطلب خبراء المختبر الجنائي..

لكن كيف وهذا اللاسلكي لا يعمل؟

قال الليثي وهو يشعل لفافة تبغ:

ـ "سيدي.. لا أعرف ما تفكر فيه ولا ما تنتويه، لكني بالفعل لا أملك تفسيرًا.. ما أستطيع قوله هو أن بوسعك الانتظار ضيفًا كريمًا في داري، إلى أن تستطيع طلب رجالك أو مغادرة المكان.. بعدها قم بتحقيقاتك وتصرّف.. أما أنا فلديّ كلام كثير عن الأمن في هذا البلد، حيث القتلة يقتحمون بيوت الأبرياء.. كنت أحسب هذا من عمل الأمن وضمن مسئولياته".

واحد من هؤلاء ميت!

واحد من هؤلاء ميت!

الفكرة لا تفارق ذهني.. تبًا لها..

الأدهى أن يكونوا جميعًا موتى..

ربما كان آل الليثي الحقيقيون موتى في غرفة أخرى الآن وأنا جالس مع أطياف..

قلت لليثي وأنا أنهض:

ـ "أريد تفتيش البيت من فضلك.. من حقك أن ترفض لكن.."
قال في ثقة وهدوء:

ـ"لا داعي.. ليس لدي ما أخفيه.. هيا بنا.."

وحمل الكلوب.. ثم استدار لي فلحقت به.. طلبت من بسيوني أن يبقى حيث هو. طبعًا كنت أرغب أن يراقب الباقين.. فقط أرجو أن يكون قد فهم هذا، فغباؤه يثير انبهاري..
***
قلت لك إنني لا أحب مهنتي..

ثقيلة متعبة مفعمة بالشك والكراهية والتوتر.. أنت ترى الإنسان في أسوأ حالاته كضحية أو كمجرم. لن تتضمن مهنتي بالتأكيد توزيع أزهار على الأيتام أو سماع آخر مقطوعة لشتراوس..

رحت والليثي نفتّش البيت..

في الظلام يصير هذا عملاً عسيرًا شديد التعقيد.. خاصة وأنك تخشى من يرافقك. لهذا كنت أجعله يتقدمني باستمرار والكلوبّ في يده.. هذا بيت ريفي عملاق فيه كل ما يخطر ببالك عندما تتخيل منزل ريفي موسر الحال. كانت هناك بعض الغرف يتسرب الماء من سقفها غير المحكم، وكانت هناك جثتان واحدة في المطبخ وواحدة في تلك الغرفة التي لا لزوم لها جوار الحمام..

لا يوجد شيء غريب.. باستثناء الجثتين طبعًا..

لكني شعرت بشيء من الراحة عندما دخلنا قاعة سقفها مكون من عروق خشب غير محكمة، فرأيت أن السماء ليست سوداء.. إنها رمادية.. ثمة بصيص نور بدأ يتسلل برغم أنه ليس كافيًا لترى.. قطرات ماء تتساقط، لكن لا شك في أن العاصفة تزول..

قال الليثي ببسمته الواثقة التي تربكني بشكل غريب:

- "أظن أننا رأينا كل شيء يا باشا.. هل يمكن أن نكفّ عن هذه الجولة؟"

فجأة سمعنا صوت جلبة.. كأن هناك من يتشاجر أو يصيح. بسيوني!

وقبل أن أفهم ما يحدث كان الليثي قد أطلق سبة واندفع يسبقني نحو مصدر الضوضاء، لأجد نفسي واقفًا في الظلام.. هرعت أحاول اللحاق به لكن خطواتي لا تألف هذا المكان، خاصة وهو يحمل الكلوبّ، والضوء الرمادي ليس كافيًا.. تعثرت وسقطت على الأرض..

باو!!

دوى صوت الطلقة في الصمت..

لقد هوجم بسيوني! هوجم بسيوني وأطلق الرصاص من مسدسه.. لا شك في هذا..

تبًا! من فعل ذلك؟

نهضت ممسكًا بمسدسي وفي حالة من التوتر كظهر قط مذعور.. لو لمسني أحد لأفرغت المسدس فيه بلا تردد..
أنا عاجز.. أنا ضعيف.. أنا واهن.. أنا في الظلام وحدي، والمسدس لا جدوى منه..

هل هناك من يصرخ؟

فجأة رأيت الليثي من جديد وكان يحمل الكلوبّ في يده.. الضوء يشعّ منه لكن لا أرى من وجهه إلا جانبه.. تأثير مخيف يذكّرك بلوحات رمبرانت. لاحَظ حالة الجنون الوقتي التي أمر بها، فراح يكلمني كأنه يكلم طفلاً:

- "هلم! اهدأ.. لا شيء.. لم يحدث شيء..
"

تراجعت للخلف فارتطمت بشيء يبدو أنه مقعد.. ووجدت نفسي جالسًا وأنا مستمر في التصويب نحوه.

- "اهدأ يا باشا.. بشرفي كل شيء على ما يرام.. الأخ الذي يرافقك فقد أعصابه وحسب أن أولادي يريدون مهاجمته. أطلق رصاصة للتهديد في الهواء.. أنت تعرف كما أعرف أنه محدود الذكاء."
- "وأين هو؟ أين هو؟"

كنت أسأله بنبرة هستيرية تتعالى.. كأنني سأنتهي بالصراخ والبكاء على المسرح، لكن الوغد كان آية في الهدوء.. قال لي بصوت منوم قليلاً:

- "اهدأ قليلا.. أقسم بشرفي إنه بخير.. سأحكي لك حكاية.."

ظللت حيث أنا ألهث وأصغي، فقال في الظلام:

- "أعتقد أن الشيخ حكى لك.. حكى لك كل شيء عن لغز أسرتنا، وكيف يظل طيف الميت يحوم في المكان لعدة ساعات.. يحدث هذا بالذات في الليالي العاصفة. وهذه الليلة الرهيبة قرر أبو زبيدة أن الوقت مناسب ليتخلص مني.. إن أسرة السنهوري تريد الخلاص مني بسبب مشكلة حدود الأرض تلك.. أخبرني أحد المستأجرين بذلك؛ فقد رآه يحوم حول العزبة لكن العاصفة تجعل تبين أي شيء مستحيلاً، وكنت أنا من اتصل بالشرطة.. لم يكن هناك إطلاق رصاص لكني قلت ذلك في البلاغ لأضمن أن يصل رجال الشرطة.. ما حدث بعد ذلك -وما فهمته مؤخرًا- هو أن أبا زبيدة تسلل للدار واصطدم بالشيخ فقتله. كان من السهل عليه أن يخنق عنقه النحيل. ألقى بجثته جوار حوض الغسيل الموجود في ركن المكان، وأنت تعرف أن المطبخ واسع جدًا، مع الظلام؛ لهذا لم نر الجثة.. وما لم يعرفه أبو زبيدة هو أن الشيخ من أسرتنا!"
نظرت له في ذهول غير مصدّق، فالتمعت أسنانه البيضاء في الظلام:

- "نعم.. هو من الفرع المعدم من الأسرة، وهو يعيش معنا كخادم لكنه يمتّ لنا بصلة القربى. الآن يمكنك فهم لماذا ظل الشيخ موجودًا طيلة الأمسية..
"

- "لكنكم قدمتم لنا الطعام.."

قال وهو يهتز بضحكة مكتومة:

- "بل هو الذي قدّم الطعام.. لم يدخل الحريم المطبخ!"

- "هل تعني أن الذي اندسّ معي تحت الأغطية.. هو.."

- "فسّر الأمر كما تشاء.. ربما كان حائرًا لا يعرف حقًا إن كان ميتًا أم لا.. وكان يريد أن يشرح لك.. ربما كان يريد التسلية.. لا يهم.. دعنا نعد لسياق قصتنا.. لقد اختبأ أبو زبيدة في تلك الغرفة ينتظر أن يظفر بي، وهنا فوجئ بذلك الشيخ ينقض عليه مسلحًا بسكين.. ربما كان الشيخ قد اكتسب قوة لحظية من الغضب، وربما لعبت المفاجأة دورًا.. عندما يهاجمك شخص قتلته فعلاً في الظلام فأنت لا تقاوم كثيرًا.. لقد مزّق الشيخ أبا زبيده وغطى جثته كيفما اتفق ثم غادر المكان.."

ثم جاء يحكي لي القصة مع حذف التفاصيل..

- "الصرخة التي أيقظتك من النوم كانت صرختي عندما وجدت الجثة.. وفهمت كل شيء.. والآن أنت عرفت ما حدث يا باشا.. القاتل قتل ثم قتله القتيل.. طبعًا لا يمكنك كتابة هذا في تقريرك، لهذا أرى أن تستغل الساعة القادمة في ترتيب قصة تقبلها الحكومة.. لا تفتش عن حقيقة أخرى فلا حقيقة سوى هذه.."

قلت ومخي يوشك على الانفجار من كثرة ما أريد السؤال عنه:

- "وأين بسيوني؟ بسيوني؟"

- "بخير.. قلت لك بشرفي إنه بخير.. الآن أرجو أن تهدأ وتعيد المسدس ودعنا نعد للأسرة.."
نهضت مترنحًا..

وقفت على الباب، فنظر لي الليثي باسمًا وناولني الكلوبّ الذي لا يكف عن الأزيز، وقال:

- "أرجو أن تحمله أنت.. إن ذراعي ليست على ما يرام."


نظرت له بشكّ.. ثم حملت الكلوبّ ومشيت في الممر متجهًا للغرفة التي كان فيها بسيوني والأسرة.. لا أعرف متى لاحظت أنه لا يمشي خلفي.. ذاب في الظلام..

هذا الزحام في الغرفة..

لماذا تصرخ المرأتان وتلطمان؟ لماذا يبكي سامي ومصطفى؟ من الراقد وسط هذه المجموعة؟

بسيوني يثب نحوي في هستيريا وهو يلوّح بمسدسه ويصرخ:

- "لم أتعمد ذلك.. أقسم بالله! لقد أفزعوني.. حسبت أنهم سينقضون علي.. أخرجت المسدس أهددهم، هنا فوجئت بالرجل الكبير يعود للحجرة ويحاول نزع المسدس مني.. لا أعرف كيف انطلقت رصاصة من المسدس وأصابته.. لم أتعمد ذلك!!"

الآن أمكنني أن أرى ذلك الراقد على الأرض وسط الباكين..

الليثي الكبير.. وثمة ثقب في جبهته..

لن أسأل عن ذلك الذي جاءني وحكى لي القصة وهو يحمل الكلوبّ.. لم يكن الليثي.. لم يكن هو بالضبط..

رباه! أنا أكره مهنتي.. أكرهها فعلاً!
--تمت
--










No comments:

Post a Comment